في الأسبوع الماضي تحدثت عن كفاءة اللغة العربية المتميزة في القدرة على استيعاب معاني وكلمات جديدة، واليوم أريد أن أستعرض أمراً آخر، ففي يوم السبت الماضي تحدثت لبرنامج (معتدلون) حول الموقف المعتدل من قضية التغريب، وبينت أن المنتج الثقافي والأدبي والفني، هي وسائل حماية اللغة ونشرها لدى المجتمعات الأخرى في مضمار (التثاقف العالمي)، وأن الثقافات تتغالب في هذه المجالات، والشاهد على ذلك انتشار الأغاني الكورية في أرجاء العالم على محدودية نطاق لغتهم وكذلك استخدام اليابان مسلسلات (المنجا) الكرتونية في نشر اللغة اليابانية، حتى باتت من أكثر اللغات انتشاراً بين الشباب اليوم، والأمر مماثل في اختراق منتجات (بوليوود) الهندية احتكار (هوليوود) الأمريكية. في حين يشهد واقعنا على قصور بالغ في هذه المحتويات، فبنظرة فاحصة لما يعرض اليوم على مختلف القنوات العربية الحكومية والخاصة نجد المحتوى العربي ضئيلاً وضعيفاً مضموناً وشكلاً في مقابل المحتوى الأجنبي والغالب فيه استخدام اللغة الإنجليزية. كما أن المواقع العربية على الشبكة العالمية التي تعرض محتوى ثقافياً مفيداً قليلة وغير موثوقة أو غير مثيرة للاهتمام.
إذا كان هذا واقعنا الثقافي فمن يحمي لغتنا العربية ويجعلها خيار الاستعمال والحديث الأول بين شبابنا وكيف؟، الجواب المنطقي هو أن حماية اللغة العربية فرض على كل عربي وكل بحسب قدرته ومجال نشاطه، ولكن العبء الأثقل يقع على الحكومات، فهي التي تنظم، وهي التي تبيح وتمنع، وهي التي تبني وتدعم، الحكومات العربية مجتمعة لا تفعل الكثير في سبيل دعم المنتج العربي الثقافي والأدبي والفني، فليس لدينا في الوطن العربي كله مؤسسة تماثل مؤسسة (NHK) اليابانية أو (BBC) البريطانية أو (PBS) الأمريكية، فهذه المؤسسات الثلاث تعني بالإنتاج الثقافي لبلدانها ولها مصداقية عالمية وهي مؤسسات غير ربحية تمنحها حكوماتها ميزانيات ضخمة. في حين أن معظم التلفزيونات العربية تصرف جل ميزانياتها في شراء حقوق بث برامج مستوردة، وهي بذلك تساهم بصورة غير مباشرة في هزيمة اللغة العربية وثقافتها في قعر دارها، وهذه التلفزيونات تستنكف الصرف على إنتاج برامج ذا قيمة وجودة عالية، وإذا صرفت فذر رماد في العيون، بحيث يخرج المنتج ضعيفاً باهتاً.
الواقع الذي نعيشه اليوم هو واقع يؤهل لهزيمة ثقافية مجلجلة في وسط الأجيال الناهضة، فهذه الأجيال تريد المساواة الثقافية مع باقي العالم، واذا لم تجد منتجاً وطنياً قومياً يستجيب لها ستبحث عن منتجات أجنبية وعندها ستصبح أجنبية الثقافة وربما اللغة، هذا هو الخطر الذي لا بد لنا أن نستطلعه، فإحجامنا عن الإنتاج الثقافي والفني والأدبي بأي حجة كانت، هو مساهمة في عملية التغريب، وهنا أقصد بالتغريب بجعل المجتمع غريباً في ثقافته وذوقه وميوله، لا أقصد التغريب في كونه اتباع الغرب.
أن من يقاوم الإنتاج الأدبي والفني والثقافي بأي صورة كان وبأي حجة كانت، هو من يمهد الطريق للغزو الثقافي من الثقافات الأخرى، فالفراغ يمتص ما يشغله، وكل الثقافات المحيطة بنا بما تحملها في بنائها من مضامين فكرية ودينية هي مؤهلة لتملأ هذا الفراغ، ومن يعتقد أن الانكفاء والتقوقع وقفل مناهل الثقافات الأخرى هو سبيل الحماية من التأثر بها فهو واهم، كما توهم اليابانيون في منتصف القرن السابع عشر عندما أقفلوا اليابان ومنعوا الاحتكاك بالثقافات المسيحية خوفاً من التأثر بها وبعد (120) سنة يقرر الإمبراطور ميجي خطة التطوير والتحديث التي جعلت اليابان اليوم من أغنى الثقافات في العالم.
نحن اليوم بحاجة لقرارات شجاعة تطلق قيد الإنتاج الحضاري لثقافتنا العربية الإسلامية، فلدينا من الثروة التراثية التي تمثل مخزوناً هائلاً من القيم والمثل والذوق والحس والتي يتعطش العالم لها وينتظر إطلاقها، ولن يتحقق ذلك ما لم نقم بإنشاء مؤسسات إنتاجية عظيمة ومرافق ووسائل وإمكانات نؤسسها بسخاء، وندعم حركة الإنتاج الأدبي والترجمة للغات الأخرى. الحديث ذو شجون ولكن الأمل أن يتحقق بعضاً مما يحمي لغتنا وثقافتنا.