يتخصص خريج الثانوية في السياسة أو التاريخ ليصبح طبيبا. ويتخصص في الفيزياء أو الرياضيات ليصبح محاميا، ويتخصص في العلوم الطبيعية ليصبح ضابطا. هؤلاء هم خريجو البكالوريوس من أرقى جامعات أمريكا العالمية العلمية والعسكرية كهارفرد وستانفورد وبرنستن ويل وأمثالها، وكوست بوينت والأكاديمية البحرية الأمريكية والأكاديمية الجوية وأمثالها من أعظم الكليات العسكرية الأمريكية. فمفهوم التعليم هناك يعتمد بالكامل على قاعدة كيف تفكر وليس ماذا تفكر، وهم يطبقونه عمليا لا شعارا فارغا. ومن الشواهد - على تأصيل مفهوم كيف تفكر وليس ماذا تفكر - الاختبارات القياسية عندهم للقبول في الجامعات والدراسات العليا، فهي تتركز كلها على مفهوم كيف تفكر وليس ماذا تفكر. فالتخصصات - في هذه الجامعات - على مستوى البكالوريوس ليس هدفا لذاتها بل هي مجرد وسيلة تعليمية، يتوصل بها إلى الهدف الرئيسي وهو كيف تفكر. ولذا، ترى أن كلية الآداب هي الكلية الوحيدة الموجودة على مستوى البكالوريوس في هارفرد وغيرها. وتنوع التخصصات داخل كلية الآداب في هذه الجامعات العريقة، هو مجرد وسيلة أخرى تساعد الطالب على اختيار التخصص الذي يميل إليه لكي يساعده هذا الميل الفطري على التحليل والتفكير بدلا من إكراهه على قراءة ما لا يحب ولا تميل إليه نفسه، أو حرمانه من علم أو فن يحبه. فإن كان الطالب عبقريا خلقة في هذا التخصص، تخصص به عمليا أو أكاديميا بعد مرحلة البكالوريوس فأصبح عالما مجددا أو مهنيا عريقا ناجحا في هذا المجال. (وطريقة التفكير هذه تشرح جانبا في كون أمريكا أصل مصدر جميع الاختراعات المهمة والعظمية في التاريخ الحديث). وأما إن كان ميل الطالب - وهو الغالب- مجرد ميل فطري عادي، لم يحرم من ميله وهواه، بل يسخر هذا الميل والهوى في تحقيق الهدف الأساسي من التعليم عندهم وهو تحقيق مفهوم كيف تفكر وليس ماذا تفكر.
وعلم الاجتماع مثلا، - الذي لا يأبه أحد لخريجه عندنا- يعتبر من أصعب وأعقد تخصصات البكالوريوس في جامعة هارفرد وفي غيرها، وهو أكثرها انتشارا في هذه الجامعات العظمى، لما يحتوي على فلسفات معقدة. وخريج هذا التخصص من هذه الجامعات تصطاده أعظم الشركات العالمية التي ليس لها علاقة بعلم الاجتماع، ومن أهمها ماكاينزي وهي تعمل غالبا في الاستشارات القانونية والمالية والإدارية ودراسة المشاريع. فتخرج الطالب بهذا التخصص من هذه الجامعات دليل على قوته التحليلية. ومن المعروف عن ماكاينزي أنها توظف خريج البكالوريوس بعيدا عن تخصصه، حتى لو كان ضمن عملها. فخريج التسويق يوظفونه في المالية وخريج المالية يوظفونه في قسم القانون وهكذا. ومن المعروف أن من عمل مع ماكاينزي، أصبح كجنيه الذهب قديما من حيث الطلب عليه وتوفر العروض لتوظيفه بأعلى الأجور في أمريكا.
كيف تفكر وليس ماذا تفكر هو أصل كل الإجابات الصحيحة عن السؤال الذي يردده كثير من المفكرين الإسلاميين: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟. فقد تأخر المسلمون منذ أن فرض عليهم - بعد فتنة المأمون وخلق القرآن - ماذا يفكرون وأملي عليهم طريقة الفهم بالتلقين، ففتنة علم الكلام لم تنته مع مجيء المتوكل بل إنها في الواقع قد ابتدأت به. فليس هناك فتنة أضرت بالمسلمين كفتنة منعهم من استخدام العقل والمنطق والفكر تحت حجة أن العقل والمنطق أدوات المتكلمين.