كثر الحديث عن السعودية هذه الأيام في الإعلام الأمريكي، فمن قيادة النساء إلى وضع القضاء إلى دور فكر المحافظين المتشددين في تفريخ الإرهاب على يد الجماعات الجهادية إلى أمور أخرى كثيرة، إلى الفتور الطارئ على العلاقات السعودية الأمريكية. وأعتقد أن الفتور والشد في العلاقات السعودية الأمريكية مؤخراً هما اللذان دفعا الإعلام الأمريكي لفتح المواضيع الأخرى التي لا يوجد حالياً الحافز لنبشها إعلامياً، باستثناء قيادة النساء. فقوة ومتانة العلاقة السعودية الأمريكية وأهميتها الاستراتيجية لأمريكا هي التي دفعت الإعلام الأمريكي لعقود طويلة للصمت عن مناقشة مثل هذه المواضيع رغم ظهور حوافز لها كثيرة، اقتصادية أو سياسية أو إعلامية عبر العقود المنصرمة. وأعتقد أن للجمهوريين دوراً إعلامياً و»تحريشياً» في تضخيم هذا الفتور في العلاقات السعودية الأمريكية اليوم.
لا أشك أبداً في أن السياسيين السعوديين يدركون سياسة الحزب الديمقراطي عموماً، وسياسية أوباما خصوصاً. فعلى عكس المشهور بين الناس في العالم، فإن الديمقراطيين هم من ابتدؤوا وقادوا أعظم الحروب والتحالفات الأمريكية. فالتحالف السعودي الأمريكي كان على يد الرئيس الديمقراطي روزفلت، الذي هو من ابتدأ وقاد الحرب العالمية الثانية. وكذلك الحرب الفيتنامية والحرب الكورية ابتدأها ديمقراطيون. ولكن التاريخ يشهد لهم بأنهم ترددوا كثيراً وتمنعوا عن خوض هذه الحروب حتى اضطروا لها اضطراراً. أما الحروب الصغيرة ضد الدول الضعيفة، كلبنان وبنما والعراق وأفغانستان والصومال فهي ميدان الجمهوريين التي يظهرون فيها وعلى حسابها عنترياتهم، ولا يبالون بتبعياتها على شعوبها، ويتركونها خراباً وفتناً.
ومن بين الديمقراطيين، اشتهر أوباما خاصة بسياساته التفاوضية والميل دائماً إلى الحلول الوسطية ولو بالتنازل عن حقوقه، حتى اتهم بالضعف من منافسيه ومعارضيه. وأوباما محب للسعودية وللملك الصالح المصلح. ولا ننسى أنه قد أظهر هذا الحب والاحترام الذي يكنه للملك عبدالله في انحناءته التي انحنى بها تعظيماً واحتراماً لأبي متعب عندما جاءه مسلِّماً بعد انتخابه رئيساً؛ ما أثار عليه حفيظة الإعلام الأمريكي المحافظ. وأوباما قد انتخبه الشعب الأمريكي على وعده لهم بإخراج أمريكا من العراق وأفغانستان وعدم الزج بها في مغامرات جمهورية. ووضع سوريا هو وضع محرج جداً للإدارة الأمريكية؛ فالتورط فيها لن يقل كلفة عن تورطها في العراق، ونشر الفوضى فيها. وضربها بالصواريخ لن يحقق غرض تدمير الأسلحة الكيماوية بل مجرد التهويش والتخويف مع احتمالية كبيرة لقتل أعداد كبيرة من المدنيين، إضافة إلى نشر الفوضى. وقد فرض الهجوم الكيماوي نفسه على وجوب تدخل الإدارة الأمريكية؛ فكانت الخطة تنوي رمي بعض صواريخ هنا وهناك، ترهب بها النظام، وتقيم الهيبة الدولية لمنع الحرب الكيميائية، ثم جاءت فرصة المقترح الروسي الذي وجدت فيه إدارة أوباما حلاً مثالياً على المدى البعيد، وقد كتبتُ عن هذا في مقال «ماذا سيكتب التاريخ عن أوباما». ومما استُحدث على الساحة السورية مجيء رئيس إيراني جديد، قد تكون الإدارة الأمريكية وجدت فيه وسيلة تعينها على مهمتها في سوريا بخلع النظام تفاوضياً، وإيقاف الحرب الأهلية دون مخاطرات مغامراتية، قد أثبتت التجارب القريبة فشلها وضررها على العرب والمسلمين أكثر مما تضررت به أمريكا.
أمريكا لن تستبدل حلفاءها، والتقارب الأمريكي الإيراني أغضب كثيراً من حلفاء أمريكا، وليس السعودية فقط. وما يروجه بعض الإعلام في أن أمريكا من أنها تتجه للتحالف الاستراتيجي مع إيران لتبدل به تحالفها مع السعودية، وأن السعودية تتجه للتحالف استراتيجياً مع الصين؛ لتبدل به تحالفها مع أمريكا، هو مجرد استهلاك إعلامي ناتج من بعض التصريحات هنا وهناك لشخصيات سعودية وأمريكية وعن بعض الأفعال. هذه التصريحات والأفعال من كلا الجانبين - في اعتقادي - أنها من أجل السياسة الداخلية. فالشعب الأمريكي لا يريد أن يرى حكومته وجيشه أداة للرغبات السعودية، وكذلك الشعب السعودي لا يريد أن يرى بلاده في موقف عاجز عن نصرة الشعب السوري.
فأمريكا ليست بالحماقة التي تدفعها إلى التحالف مع عدو لها قديم أملا في رئيس جديد، يقوده الملالي الذين قادوا إيران في العقود الماضية، وقادوا العداء ضد أمريكا. وكذلك إيران ليس لها ثقل في العالم الإسلامي لاختلاف مذهبها عن مذاهب الدول الإسلامية. ومن الجانب الآخر، فإن السعودية تعلم أن الصين ليست لها رغبة مطلقاً في التدخل أو التحالف مع أي من الدول في الشرق الأوسط، ولا تريد التدخل في شؤونه. والصين قد تعلمت ورأت ما جره تدخل أمريكا في الشرق الأوسط من آثار سيئة على سمعة أمريكا في العالم العربي؛ وبالتالي تعرُّض أمنها للخطر. والسعودية كذلك تعلم أن الصين هي الصين، وأنها لا تزال تكافح للخروج من ورطتها الأيديولوجية الشيوعية وآثارها الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية على مجتمعها.
وختاماً، فليس قول من هو خارج الأبواب المغلقة كمن هو خلفها.