إذا فقدتْ أُمَّتُنا مرحمةَ دينها، والأخلاقَ الفاضلة، وشيمة العرب، والاحتياط في الكسب الحلال: تحوَّلتْ إلى مَسْخ، ولم يزدها ذلك إلا القلقَ وحرج الصدر والفقر.. وإنني أسمع في مجالسي من الاستفاضة التي إن كان في بعضٍ منها مبالغات فليست كلُّها عاريةً من الصِّحة ، ولا سيما ما سمعته من الثقات وأصحاب المعاناة.. وهذه الأحداث سخامها وقبحها عند الله، وسوء عقباها باستحلاء المجتمع لها، وهي مع هذا تغرس البغضاء للشعب السعودي عند الآخرين..
ومما سمعته ورأيته عند بعضهم: أن أحدهم يُبَلِّغ عن مكفوله أنه هرب منذ أشهر؛ فإذا أراد السفر سُجِّلت عليه مخالفةٌ تقتضي عدم عودته، وإذا بكفيله لم يُعطه حقه لعام أو أقل، وإذا به غيَّر عنوانه وهاتفه.. وآخر يستجلب عَمالةً باسم مؤسَّسة لا حراك لها، ثم يبثهم في الآفاق ليعملوا وعليهم ضريبة شهرية.. وآخر يشمئزُّ منه مكفوله، ويجد من يكفله؛ فلا يوافق الكفيل الأولُ إلا بمبلغ كبير قد يصل إلى عشرين ألف ريال؛ فهل في الكسب الحرام أقبح وأشد حُرمةً من عرق الآدمي بغير مُقابل من الكافل؟!.. إن الكفالة من أجل عملٍ مشتركٍ مُقابل جهدٍ من المكفول ومُرتَّب من الكافل، وليس للكفالة في نفسها أجرة، ولم تمنحه الدولة الكفالة للمتاجرة بها.. وقد يطلب الكفيل من الدولة فيزة استقدام لمكفول باسم العمل وليس عنده عمل، ولكنه رَقَّ لحاله: إما لأنه أسلم وخاف عليه إذا أُعيد إلى بلده، أو أنه يتحرَّى طريق السلف وقد جاء لطلب العلم على فقرٍ في بلاده وفِتن، ثم سمح له أن يسكن في الرباطات التي جعلها بعض المحسنين وقفاً كوقف الشيخ ابن جبرين رحمه الله تعالى؛ ليواصل طلب العلم، أو يُسمح له بالتسبب اليومي كغسيل السيارات ومسحها، أو عزق وتقليم بعض الحدائق والبيوت؛ فهذا حاله أنه خالَف مُقْتضَى الكفالة التي منحتها له الدولة مخالفةً إدارية؛ ولكنه على الرغم من ذلك مُحَقِّقٌ للدولة ولنفسه أجراً عظيماً، وكذلك إن سمح له بالعمل عند آخر براتب مُعَيَّن.. وهذه كفالة تطوُّع وقُربة إلى الله سبحانه فلا يحل له أن يأخذ عليها أجراً؛ فإن عمل له عملاً فلابد أن يؤدِّيه حقَّه.. وآخر يتَّبِع النظام فيستقدم مكفوله للشراكة فيكون منه رأس المال ومن المكفول العمل، ويُبْرِم العقد على أنه استقدام براتب معيَّن؛ فهذا الراتب خلاف الاتفاق السِّري الشفهي بأن يكون له نصيب من الربح؛ فإذا كان حقه من الربح ضِعْفَ الراتب أو أكثر لم يعطه حقه؛ فهذا ارتكب خِزيين أولهما التدليس على الدولة، ومخالفة النظام بأن الاتِّجار بالمشاع من الربح من حق المواطن السعودي؛ فهذا إجراء إداري من ولي الأمر لمصلحة الأمة واجبة طاعته.. والخزي الثاني أكله المال بالباطل من الناحية الشرعية؛ إذْ حرمه حقه من الربح؛ لأن الاتفاق السري على النصيب من الربح لا على راتب مُعيَّن؛ ولأن الاتفاق على الراتب اتفاق صوري مُزَيَّف.. وآخر يتَّفق مع المكفول على راتب أقل، ويلتزم بإيداع الراتب الأكثر حسب تنظيم ادولة في البنك؛ ثم يسترجع الزائد من مكفوله، والمكفول مضطر خوفاً من أن يستغني عنه.. وآخر يُدْعَى إلى وليمة فيترك السائق ساعاتٍ طويلةً حتى يخرج، أو يدفع له خمسة ريالات أو سبعة ريالات؛ ليأكل وجبة خفيفة من فول أو عدس أو طعْميَّة أو مُطبَّقاً أو نوعاً من السندوتشات، ثم يضرب له موعداً ليأتي فينتظر في السيارة، وقد رأيت هذا بعيني.. وآخرون لا يأكلون مع مستخدميهم، ولا يُؤكِّلونهم من مائدتهم، بل يصرفون لهم الأجر اليسير الذي أسلفته، والفاضل منهم من يُرسل للمستخدمين فضلة المائدة إن فضل منها شيئ.. وآخرون يضربون مستخدميهم ويشتمونهم.. أَوَ لا يكون لهؤلاء قدوة في رسوله في تعامله مع خادمه أنس بن مالك رضي الله عنه؟.. أو لا يسمعون ويطيعون توصيةَ رسول الله بمن هم تحت أيديهم؟.. فيا بعض أبناء أمتي: أين شيمة العرب، وأين أخلاق الإسلام، وأين بركات التعامل الكريم الذي يدفع الله به عن الأمة المصائب والفتن؟؟.. إنا لله وإنا إليه راجعون، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
* * *
وَثَنِيَّةُ الدين الدخيلِ الوضعيِّ:
تأوَّل موسى بن ميمون اليهودي القرطبي [530-603هـ] كُفْرَ العبراني بقوله: «اسم الله مشترك للإله والملائكة والحكَّام مدبري المدن!!»، ثم قال: والصحيح ما بيَّنه آنقولوس: (وكنتم كآلهة تعرفون الخير والشر).. وذكر أن آدم عليه السلام في صورة الله وشاكلته، وذكر عن الإنسان (أن فطرته ومعقولاته نقَّصته عن الله قليلاً!!).. انظر دلالة الحائرين ص24 و25 و26.
قال أبوعبدالرحمن: دين يهود على التشبيه؛ فالله تقدَّس عما يقولون: (إنسان كبير)، والإنسان (إله صغير)!!.. ولم يجعلوا معنى الإله خلوصَ عبادةٍ، وواحديةَ كمالٍ وتنزُّه، وواحديةَ مَنْ بيده النعمة والرحمة والعدل.. لم يجعلوا كل ذلك حقاً خالصاً لربنا وحده؛ لأن اسم (الله) عندهم مُشترك.. عليهم لعائن الله تترى.. ومع الأسف أخذ بعض علماء المسلمين تشبيهَ يهود حُجَّةً في جعل ضمير (صورته) راجعاً إلى الله في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خلق آدم على صورته، طوله ستون ذراعاً».. مع أن المراد صورة آدم عليه السلام نفسه لم تتغير بعد إهباطه إلى الأرض، ولم يُخْلق مرتين، وستون ذراعاً ليست قياساً له هو سبحانه؛ لأن ضمير (طوله) عائد إلى آدم عليه السلام.. إن الله خلق آدم على صورته التي كان عليها لما كان من أهل السماء؛ فبقيت على ما كانت عليه لما كان من أهل الأرض.. وتحريف الكلم عن مواضعه مع عُقْدة (شعب الله المختار) أنتجت هذا الخذلان في عقيدة التوحيد لربنا جل جلاله، وظنَّ المتسرِّعون من بعض علماء المسلمين أن هذه العقيدة الوثنية الوضعية من المأثور في دين موسى عليه السلام؛ فاحتجُّوا بهذا الإفك، وضلُّوا وأضلُّوا، وتمسكوا بشذوذِ حديثٍ مخالفٍ القطعيَّ، وأُباهِلُ على أنه كذب أو وَهْم؛ إذْ أحسنُ أحواله أن الراويَ الغبيَّ ظنَّ أن ضمير (على صورته) عائد إلى الرحمن جل جلاله؛ فرواه بوهمه الفاسد.. أعني الراوي في أول الإسناد، وهو ضعيف في نفسه؛ فإذا رَوَى عن عطاء جاء بأحاديث لا زمام لها ولا خطام.. واحتجَّ المتسرِّعون بما جاء في التوراة بعد تحريف الكلم عن مواضعه.
قال أبو عبدالرحمن: إن كان هذا التمثيل المطابق الذي هو أعظمُ فريةً من التشبيه ديناً مأثوراً: فقد جاء نَصُّه في العهد القديم: (نخلق بشراً يُشبِهنا)؛ فهل ديننا المحفوظ بوعْده الشرعي وقضائه الكوني يُبيح تشبيهَ أحدٍ بالله سبحانه وتعالى، أو أن ذلك شِركٌ في صفات الله مُـحَرَّم أغلظ التحريم، وأنه إلحاد في أسماء ربنا؟!.. وشبهة مَن عارض قطعي الشريعة برواية (على صورة الرحمن) الباطلة سنداً ومتناً أن لآدم وجهاً وللرحمن وجهاً، ولآدم يدين وللرحمن يدين.. وهذا صحيح، ولكن جملة (على صورته)، والاحتجاج بالتوراة تقضي بمشابهة اليد لليد والوجه للوجه، وتقتضي عمومَ الاشتراك في الأسماء لما هو صورة آدم وصورة الرحمن مع أن في صورة آدم عليه السلام ما لا يليق بالرحمن جل جلاله كأداة النسل.. ثم لماذا تَثْقل على هؤلاء القوم الشجاعةُ في الحق؛ انتصاراً لقدسية الله جل جلاله الذي هو الأحق بأن يُرضى ويُتبَّع شرعه خبراً وأمراً ونهياً؛ وذلك بتراجعٍ صريح مكتوب على الورق يبرأون فيه مما ليس هو من الاتباع للسلف بإحسان، وأنه مُصادِمٌ القطعيَّ من دين الله، وأنه لا احتمال له من لغة العرب التي نزل بها شرع الله؛ وبهذا يصونون غيرهم من أواسط المتعلمين التقليديين من اعتقاد هذا الإلحاد في أسماء الله وصفاته، ويلتمسون ما استطاعوا وجودَه من وجوه العذر لِمن أخطأ من أهل السنة والجماعة؟!.. لماذا لا يُعلنون أن السلف الذين لا سلف غيرهم، ولا إجماعَ إلا ما أحصاه الحصر من اتفاقهم ولو كان بعد خلاف انتهى بإجماعهم إنما هم المذكورون في سورة التوبة بصفات هي نصٌّ على معنى السلفية، وبصفات تميِّزهم فرداً فرداً؛ لأنهم محصورون معروفون بأعيانهم، وبخبرٍ يقتضي رضا الله عنهم بإطلاق، وأنهم من أهل الجنة بدءاً بإطلاق، وأن رضا الله الذي حقق الله به نعيمهم مذخور بشرط اتِّباعهم بإحسان.. ونقيض الرضا السُّخط؛ فكان ذلك موجباً اتِّباعهم بإحسان، وليس ذلك لغيرهم.. وأولئك هم السابقون الأولون [وهذا هو معنى السلفية] من المهاجرين والأنصار [وهم المحصورون بالإحصاء والتعيين من أهل الرواية والفتوى]؟.. ولماذا لا يعلنون أن أهل السنة والجماعة من الفقهاء أهل الحديث يحرصون على اتباع السلف، والصواب عندهم هو الأكثر الغامِر اجتهادهم، وأنهم غير معصومين من الخطأ والزلل من غير تَعَمُّد، وأن صواب الاجتهاد الذي يكون فيه أجر ومعذرة إذا لم تحصل إصابة المراد لن يكون أبداً لمن جابعدهم إذا تعمَّد التقليد لغيره، وجعله إماماً له، وغلبته الحمية للمذهب من حيث يدري أو لا يدري وإن حصلتْ له إصابةُ المُـراد مصادفةً.. وصورة الرحمن سبحانه وتعالى هي صفاته، ولكنَّ تركيبَ جملة (على صورته).. أي على صفة الرحمن هو التشبيه القبيح المحرَّم المُخْرِج من الملة إلا من تاب وأناب، ولا مجال للاجتهاد في ذلك، وأرجو الله أن يرحم ويغفر لمن أخذ هذا المعنى متأوِّلاً إن لم يكن متعمِّداً التقليد والانتصار لمحدِّث غير معصوم.
قال أبوعبدالرحمن: والإجماع الذي هو أصلٌ من أصول الدين، وهو مقدورٌ على العلم به هو إجماع السلف الذي أسلفته، وهو الإجماع الأبدي: فلا تحل مخالفته إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها.. وأما الإجماع الجزئي الوقتي الذي يكون في كل عصر ومصر كالاجتهاد في تطبيق الأحكام على الوقائع الجديدة، والاجتهاد في المسكوت عنه الذي جعله الله لاستنباط أهل العلم، وكتقدير مدى الضرورة ومد ى ما نقدر عليه مما أمرنا الله به وفتح لنا الباب أن نأتي منه بما استطعنا، وكالمصالح المرسلة: من صلح مع عدو، أو تنظيم الإحياء، أو توظيف الأرض لمرافق المسلمين: فلابد فيها من تَحَرِّي مقاصد الشريعة وكُلِّياتها، وللمجتهد من علماء الشريعة وذوي الاختصاص في الوقائع أن يبدي اجتهاده ببراهينه؛ فإذا تمَّ الاتفاقُ فلا يحل له معارضتهم، وله أن يكتب لولاة الأمر بملاحظته ثم يمتثل لما استقر عليه الأمر.. فإن كان الأمر من غير المصالح المرسلة فليعمل باجتهاده في خاصة نفسه ومَن يعول، ويُبيِّن اجتهاده في مؤلفاته، ولا يخالف ما اتُّفِق عليه في سلوكه إلا ما يتعلق بخاصة نفسه كمسألة زرع الأعضاء؛ فالمسألة فيها فتوى لا قضاء، وليس ملزماً بالتطبيق.. وأما قدسية الله على واحدية الكمال والتنزه بإطلاق فليس فيها اجتهاد جزئي، بل هي محسومةٌ بقواطع الشريعة.. إنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله، والله المستعان.