الرحيق في تأصيل ابن فارس رحمه الله تعالى هو أَجْودُ ما يكون من شراب الطالحين.. قال حسان بن ثابت رضي الله عنه يمدح الغساسنة في جاهليته:
يَسْقُونَ مَنْ وردَ البَرِيصَ عليهِمِ
بَرْداً يُصَفِّقُ بالرحيق السلسلِ
يَسْقُون دِرياقَ الرحيقِ ولم تكنْ
تُدْعَى ولائدِهُمْ لنقْفِ الحنظل
ولا يصح غيرُ رواية (بَرْداً)، وهي وصف للماء في أشدِّ برودته؛ لأنه جعله نفسه هو (البَرْدَ) ولم يكتف بأن يصفه بالبارد.. واختار البرقوقيُّ في شرحه ديوان حسان تقديمَ روايةِ (بَرَدَى) الذي هو نهر بدمشق كما أن البَرِيص نهر بدمشق أيضاً، وهكذا فعل الإمام ابن جرير في تفسيره، وَوُفِّق للصواب الزجاج - وحسبك به - في كتابه معاني القرآن رحمهم الله جميعاً.
قال أبو عبد الرحمن: رواية (بَردَى) لا وجه لها يُعْقَلُ ألبتة؛ فكيف يَرِدون البريص ويُسقون من بردَى؟.. هذه واحدة، ثم إن النهر لا يكون في منتهى البرودة والصفاء إلا بعد معالجة؛ فهذه ثانية.. ثم إن هذه الدعوى لا تصح لغةً عاريةً من البلاغة إلا بتقدير (ماءً من بَرَدَى)؛ لأن (بردى) ليست بمعنى (ماء بردى)، ودعوى التقدير لا تصح إلا ببرهان فهذه ثالثة.. ثم إن الطالحين لا يُصَفِّقون رحيقهم إلا بالثلج، فالصَّفْق من يُبوسة الثلج؛ إذ يَصْطَفِق في قعر الكأس كلما ذاب منه، والمزْج يكون عند وبعد ذَوَبانه؛ فيظهر حُبابها، ويُضيئُ ممزوجُها، ومعنى (البَرْدِ) الذي هو الثلج لا يتحقَّق من إطلاق (ماءٍ من بردى)؛ فهذه رابعة.. ثم هم نازلون (البريصَ) فما الحاجة إلى ماء بردى لو صح إطلاق الماء؟.. فهذه خامسة والله المستعان.. وَنَفْيُ نَقْفِهم الحنظل كنايةٌ عن تَرفِهم، فهم لا يستخرجون حب الحنظل ويَمْلَحونه حتى يَنْشَقَّ عن لُبِّه، فيتسلَّوْنَ باستخراجه - وذلك يُسَمَّى التَّقشيم - في الوحدة عن مرارة الفراغ، ويتسلَّون به في المنادمة عن الجوع حتى يحضر ما يَسُدُّ الرَّمَق.
قال أبو عبدالرحمن: فَقْدنا في خِضَّم رفاهية العصر وسماجتها نِعماً كانت أَلذَّ كالهبيدِ، وثمرِ العاقول، ونقيعِ الجراد، ويبيس التمر والجراد، والفَتيت، والمضير، والمُلبَّس.. كما فقدنا ثلاث أكلات لا يتقنها غير أهل بلدي (شقراء)، وهي المُخيْمِرات، ومَثْلُوث العصيد، والصالونة.
وَوَرَد البيتُ في تفسير ابن جرير هكذا (يشقون) بالشين المعجمة، وهذا لا معنى له، ويقتضي تشديد القاف فيختل الوزن، فإن لم يكن ذلك سيولةَ حِبْرٍ في الأصل فهو تطبيع.. وشراب الطالحين كما يعتقدون درياق، وهي بمعنى ترياق الذي هو علاج وبلسم، ووجه المجاز عندهم أنها تطرد الهمَّ، ونسوا أن عقباها جَلْبُ أشدِّ وأطولِ الهم، والتنغيصُ بكل ضررٍ عمَّ، وخطرٍ طمَّ.. والمسلمون تجَـوَّزوا بعد نزول سورة المطففين (إن لم يكن التجوُّز عند العرب قبل ذلك) بالرحيق لأجود شراب للأتقياء الصالحين؛ لأن الشراب لا يكون رحيقاً حتى يكون سَلْسلاً بمعنى ليِّن ينساب من الحلق؛ فهذا مِن معاني الجَوْدَة.. ولأن شراب أهل الجنة الخالي من الأكدار والأضرار موصوف في سورة المطففين بأنه مختوم بالمِسْك؛ فإذا أَرْوَتهم الكأسُ ختمتْ لهم بما في قعرها من طعم المسك وأريجه؛ فلسليمان العتيق مِنِّي إرْواءُ رحيق، ورشُّ أريجِ، ولحائل وأهلها - ولا سيما أن لي خصوصيةً بالشيخ إسماعيل العتيق - ألفُ حَقٍّ؛ لأنني عشتُ في أفيائها عاماً ونصف عام على نفقة صاحب السمو الملكي الأمير مقرن بن عبدالعزيز جزاه الله عني خيراً ذارعاً من النَّقِرة والعلم إلى مُنْدَفَن التَّيسيِّات (حزن بني يربوع) في رمل عالج جنوباً وشمالاً.. ومن الأجفر شرقاً إلى رِيع المُغَنَّى وبيضاء نِثِيْل غرباً وما حاذاهما جنوباً.. ومداخلة العتيق (وإن كانت بعنوان الرد على ابن عقيل) جاءت بأسلوب ظريف، وعتبٍ لطيف، يَنِمُّ عن حب عنيف؛ فلزمني واجبُ الوفاءِ بلطافة المداخلات، وظرافة الَّلذَعات؛ فقد نشر مداخلتَه في ملحق هذه الجريدة يوم السبت 29/11/1434هـ، وكان تمهَّل في المداخلة حتى تصدر بقية دراستي لقصيدته (رسالة إلى القصيمي) في مسلسل مقالاتي بعنوان: (أحاسيس مُتَدَفِّقة غير مضطربة)؛ فلما تأخَّر نشرها ظنَّ أنني صرفتُ النظر عنها إلى ما هو أهمُّ، فنشر مداخلته.
قال أبو عبدالرحمن: كلَّا ما أهْمَلْتُها، ولكنَّ شَرْحَ الواقع يقتضي استطراداً آخر؛ وهو أن سبْتِيَّتي لا يفَي حَيِّزها - وهو ألفُ كلمة - بما أريد نشره من بَث الكثِّ، وكانت عوضاً عما عوَّدتني عليه الجزيرة من نشر مسلسلاتٍ كلُّ حلقة تستوعب صفحةً كاملة؛ فاحتلتُ عليهم بالوفاء بالسبتية، والتطعيم بمطوَّلات خلال الأسبوع؛ ولكنَّ عناني أصبح بيد رئيس الكتبة الأستاذ خالد المالك (قائداً لا راكباً!!)؛ ولذلك كبح جِماحي بسببين:
أولهما: أن كُتَّاب الجزيرة كُثُرٌ، ومناسباتُها أكثر.
وثانيهما: أنني أحياناً (أَطْمُرُ الجِرفان)؛ فيرفق بي وَيَئِد بعض الحلقات؛ خوفاً عليَّ من المساءَلة.. وربما لابَ بباله سبب ثالث، وهو الخوف من ملل القُرَّاء؛ فمع الكثرة لا تصبح العُمْلَة نادرة.. والأحاسيس خمس حلقات نُشر منها ثلاث حلقات، ولم تُنشر الرابعة، وقد اِدَّخرتُ دراسة بقية القصيدة للحلقة الخامسة ولم أُعِدَّها بعد، وأعد إن شاء الله بالوفاء بما وعدتُ به.. وبعد هذين الاستطرادين أذكر من تسويغات العتيق الجميلة أن وقوفي على القصيدة مُـجَرَّد وقوفٍ مُكْتَسبٌ له؛ فشكراً له على تواضعه فيما ذكره، ومرحباً به فيما لم يذكره من كَسْبي الشخصي مما يريحني من كون نقدي لآثار أمثاله لا يضيع؛ فكم من مستهترٍ مستكبر يتباعد عن الهدى بعد أن استبان له، ويُـصِرُّ على ما هو فيه من خطإٍ.. وذكر أن نقدي كان قاسياً قوياً؛ فعاودتُّ قراءته؛ فإذا هو ألَذُّ من سجع الحمام.. وذكر أنه عَدَّ أحكامي توجيهات وإضاءات عسى أنْ يُفِيد منها، وهذا جميل جداً بارك الله فيه.. ثم استدرك بقوله عن أحكامي: (مهما اختلفتُ معها)؛ فأرجو عدمَ الاختلاف، وردَّ الانشقاق إلى الوفاق؛ لأن مَن هو أكبر منك بعام (إذا كان الطرفان متساويين في الجد) سيكون أعلم وأكثر منك تجربةً بمدة عام آخر على الأقل، وعمر أبي عبدالرحمن يساوي عمر سليمان مضروباً في اثنين؛ فإنني لك في مقام الأب رائداً.. وذكر حفظه الله أن (المعنى في بطن الشاعر) كما يقول شعراء القلطة.
قال أبوعبدالرحمن: بئس والله ما ضربوا مِن المَـثَل؛ فليس في بطن الشاعر إلا الأذى المُوجِبَ الوضوءَ أو الاستجمار إن لم يحصل استنجاء؛ ولهذا كنت لا أُطيق قراءةَ شعرِ ابن حجاج في (يتيمة الدهر)؛ لأنه كله عن القَرْقَرة.. والنص إن لم يكن بَيَّنا معناه من نفسه بجلاء أو عناء فهو نصٌّ مهمل بلا معنى، وليس وراءه معنى في سِرِّ صاحب النص؛ فإن كان رامزاً مُـخْفياً المَـعْنِـيَّ بالمعنى المُستبان كتوريته عن (ليلاه): فإن المعنى المراد يظهر بجلاء أو عناء من النص نفسه، ويظهر المعْنِيُّ بالمعنَى لخاصةٍ تعرف خفايا سيرة صاحب النص ومعهود سياقة؛ فما علمنا أن بشار بن برد يهجو ولا يمدح في قوله لكريم العين: (ليتَ عينيه سواء) إلا لِعِلْمنا من أخباره أن (القِباء) كان سيِّئ الخِياطة.. ومَن لم يستبن المَـعْنِيَّ بالمعنى من عامة النص فالمعنيُّ في تصوُّر الشاعر وليس في بطنه، والتصور مَلَكَةٌ عقلية تحفظ وتَستذْكر، وتُسمَّى الذاكرة والحافظة.. وأخي سليمان اختار رسالته إلى القصيمي بقصيدة من شعر التفعيلة، وهمومُ العصر الخانقة اليوم جعلت المحضر الأدبي راكداً يتبلَّد فيه الإبداع؛ لغياب الناقد؛ فرجمتُ الماء الراكد بقطعة عنبر؛ ليفوح نشره؛ وذلك بسبب تجربتين إحداهما من معاناتي النفسية، وأخراهما من لَـمَّاحِيَّتي ازدهارَ شعرِ الحداثة وظهورَ نظريته؛ فأما الأولى فقد اجتهدت في المشاركة بقصائد حداثية استيقنت أنها مُبْدِعة؛ فاستكثر بنو جيلي أن يكون ذو اللحية الحمراء المتوغِّلُ في عُمْقِ التراث أهلاً لإبداعٍ حداثي؛ فقابلوني بالصمت؛ فتبلَّد خاطري عن إبداع جديد، وقلت: (خذوا مني بضاعتكم مُزْجاة)؛ فاحمد الله يا ابن عتيق: أنْ حَرَّكتُ راكِدَك، واجتذبتك إلى مقالتك الفنية الرائعة.. وتجربة اللماحية أنني وجدت كثيراً من كتب النقد الحداثي هذراً؛ فلم أسعد إلا بظاهرة واحدة في مجلتين جهوريتي الصوت؛ إذْ يلي العددَ الذي نُشرت فيه القصيدة الحداثية عددٌ فيه نقد للقصيدة من ذَوَّاقة متخصِّص؛ وربما توالت المداخلة بين الناقد والشاعر؛ فتتبلور القيمة الحداثية بجلاء لعامَّة المتلقِّين، ويدفعهم ذلك قسراً إلى الاستزادة من الينابيع التي تُغدق عليهم بالمفاتيح الفكرية والعلمية والجمالية لتقويم الحداثة.. المجلة الأولى مجلة الرسالة التي أنشأها أحمد حسن الزيات، وكانت في ظرف الانتقال من الرومانسية إلى الحداثة؛ فكانت القيمة الجمالية فيها أظهر.. والمجة الثانية مجلة الآداب لسهيل إدريس في ظرف انتقال الحداثة إلى التجاوز والغموض والمعاياة وكثير من العبث، وقيمُها الفكرية والعلمية والرمزية والانفتاح على الإبداع العالمي واضحة جداً؛ وإنما يعيبها موتُ الحسِّ وفقد غَضْبةٍ مضرية تحمي وجودنا الكياني من عبثِ وتشفِّي ووعيد واستهزاءِ زبَّالي الطائفية والشعوبية من أعداء الملة والنِّحلة؛ فكانت مَضِيفاً زاهياً لفلول هزيمتنا من أصنام شعرٍ وحوار ومواقف.. وسليمانُ سلَّمه الله يَعْتِبُ عليَّ ما يراه حُكْماً قاسياً حول مفرداتٍ عن الجوى والنواح لا تكشف عن واقع القصيمي، ولا تليق بحال من هو أشد صخباً من القصيمي مثل الدكاترة زكي مبارك ونيتشه.. ثم احتجَّ عليَّ سليمان بما قلته في حق القصيمي بكتابي (ليلة في جاردن ستي.. وهو عنوان خليع لموضوع شريف كما قال معالي الأستاذ أبو عِصام عبدالعزيز السالم متَّعه الله بالصحة والعافية)؛ فقد قلتُ بصريح العبارة: (إن مؤلفاته صريخ وعويل)؛ ولهذا يزيد احتجاجه عليَّ بأن القصيمي ذو جوى، وليس من الشرط أن يكون الجوى خاصاً بالمرأة.. ثم ينتقل سليمانُ إلى جواه هو متأسياً بشريعة القرآن الكريم في تسليته عبدالله ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم في أَسَفِه على كُفْرِ مَن لم يؤمن به: بأن لا تذهب نفسه الكريمة عليهم حسرات.. ثم زاد الاحتجاج عليَّ بمثل قول القصيمي: «إني أنقد لأني أبكي وأتعذب».
قال أبوعبدالرحمن: بارك الله في عَرْكي أذن سليمان؛ فلولا الله ثم ذلك العَرْك ما حظيتُ منه بهذا الجدلِ المظهرِ الموهبةَ الكامنةَ بهذا الاحتجاج اللغوي الفكري الفقهي.. والبهرُ فيه أنه نفَسٌ أنيق قادر على خلط الأوراق وتضييع مَحَلِّ النزاع بغير قصد سيئ؛ وإنما أراد الإبقاء على (مجد) القصيدة.. على أنني لامسْتُها بنقدٍ تقويمي فذلك احتفاظ واستزادة معاً لما أُقِرُّ به من مجد عتيقي واعدٍ جمالاً وعلماً وفكراً؛ لهذا أُخَلِّص الأوراق المُختلطة بالوقفات التالية:
الوقفة الأولى: أن أوَّلَ سياق الأستاذ سليمان في أول مقطع عن القصيمي في منحى التِّيه، وفسَّر التيه بأبواب الهوى، وذكر المُـفْردات على أنها قَلَق بين جَنْبيه، وأن الدموع تنزَّت بعينيه، وأن الذي أبكاه حزنٌ شفيف.. ثم ذكر أثر ذلك على المتلَّقي بأنه جِراح المتعبين، ودمع الحائرين، وسهاد المثقلين، وكل ذلك غبنٌ دفين.
قال أبو عبدالرحمن: كلَّا.. فليس هذا هو واقع عبث القصيمي؛ فليس هو تائهاً، وليس بين جنبيه قلق مثير؛ لأن ذلك لا يكون إلا من فيلسوف نظرَ إلى شُبَه الإلحاد وبراهين الإيمان بمعاناة في بيئةٍ لوِّثت فيها الحقيقة؛ فصار البرهان شبهة، وصارت الشبهة برهاناً؛ وهذا حصل في بيئةٍ اُشرِبت بالتحريف والافتراء في العهدين القديم والجديد؛ فكاد العهدان يكونان ديناً وضعياً لا ربانياً، وكانا تجاسُراً على العقل الإنساني المُشْتَرك؛ فصار في ذلك البطشُ الكنسيُّ، والعداء العنيف للفكر العلمي ومنجَزاته.. وركِب الموجة حُذَّاق التضليل الظلامي؛ فبدأ خُفوت نظرية المعرفة والعلم بالمنهج العقلي الذي يسمونه عقلانياً؛ فجعلوا النون عِوضاً عن جمع العقل.. بينما العقل المُـفْرد لا يعني سوى العقل الإنساني المشترك، ولا يعني العقل الفردي عند فردٍ من الناس؛ وهو منهجٌ حصيف سلكه أبو الفلسفة الحديثة (ديكارت) مُطوِّراً منهج أسلافه من مؤمني النصارى مثل أَنِسْلم الأنطولوجي وتوماس الأكويني.. وقلت: (إنه حصيف) لأنه أجاد وأفاد في تقرير وحدانية الله على الكمال المطلق مع خللٍ في توحيد الألوهية؛ بسبب الإرث الميتافيزيقي في دينهم عن الأقانيم الثلاثة، ثم اقتحم المدرسة العقلية مُتسمُّون بهذا المذهب كذباً وهم غير عقليين على الحقيقة.. منهم الملحد (لايبنتز)، واليهودي المتستر بالتضليل وهو (اِسْبينوزا) الذي راوَغ حتى دعم ما يسميه الحقَّ الطبيعي وهو حق الشهوات، ثم أَحَكمَ عليه دعوى القانون الطبيعي المكتوب الذي هو أساس القوانين الوضعية؛ فلما اختلَّت نظرية المعرفة والعِلم تعدَّدت مذاهب الفلسفة التي لا تكاد تُـحصى؛ وهي تقوم على أحد عنصرين: إما أن تكون حسبانيَّةً لا ترى أن الحس موصِّلاً إلى معرفة، ولا أن العقل والعلم الحديث موصِّلاً إلى علم حقيقي مع أن العلم الحسي المنظور لا اختلاف فيه.. وإما أن تكون قطعية (دوغمائية).. وهذه المذاهب الكثيرة كتبها الفلاسفة بهدوء من غير صراخٍ ولا ضجيج، وإنما صارَ صراخُ وضجيج الحَيْرةِ عند أُناسٍ لم تغطش الشبهةُ نورَهم الفطريَّ، ولم تقْوَ عقولهم على البناء الفلسفي المضادِّ الذي يُظهر الحقيقة؛ فكم من الفلتات عند حائرين يُصرِّحون برعاية الكون من واحدٍ قادر، وأن كل ما في الكون شاهد كما في فلتات (بيكون) رائد الفلسفة الوضعية، وفلتات (دويفسكي)، وغيرُهما كثُر.. ولكنهم غير قادرين على تصورِ حقيقة هذا الواحد، وغير قادريعلى تصوُّرِ ما يُعبد به ذلك الواحد، وغير قادرين على تصوُّر التخلي عن شهواتِ غرائزهم وهي في زعمهم حقٌّ طبيعي فُطِروا عليه.. وأكثر ما وُجِد هذا النُّواح الصادر عن ألم حقيقي عند من عالجوا مسألة الإيمان والإلحاد بالروايات الأدبية وهم على الصفة التي أسلفتها من الحيرة الحقيقية كما في رواية (الأخوة كارامازوف) للروائي الروسي دويفسكي؛ لأن الجائع لا ينام.. أما القصيميُ يا سليمانُ فهو دون مستوى هؤلاء بمسافاتٍ لا تحتمِلُ المقارنة؛ لأنه ليس فيلسوفاً على الحقيقة، وليس ذا تأصيل فكري علمي، وليس هو ممن يَعْتَدُّ بالعقل؛ فعنوان كتابه (العالَـم ليس عقلاً) يقتضي أن هناك عقلاً مُعَطَّلاً، وعنوان كتابه (أيها العقل مَن رآك) يقتضي نَفْيَ مَلَكَة تعقل؛ فإرخاؤه الذي سمح به، وَجَدْبه الذي تمسَّك به أمران متناقضان كلاهما في دَوَّامة (لا عَقْل)، فجذبه غير معقول، وإرخاؤه غير معقول؛ فكلُّ البشر لا يعقلون، وكلُّ الكون لا يُعْقَل، ولا وجودَ لعقلٍ أصلاً؛ ولهذا لم يَضَعْ بديلاً يُعْقل؛ فكان سَفَلَةُ الوجوديين أحرى منه بشيئ من ذيول العقل !!.. وإنما أغمض عينه اليمنى عن براهين الإيمان، وفتح عينه اليسرى الكليلة على أدبيات الإلحاد لا على بنائه الفلسفي العنيف القادر على التضليل؛ لأنه لم يستوعب عُضَلَ الفكر تصوراً وحكماً وتعريفاً وقِسمةً وأمثلةً شارحة وإيراداً ودفعاً؛ بل لا أثر لنظرية المعرفة والعلم في كتبه ألبتة؛ لأنه غيرُ فاهمٍ ولا مستوعبٍ لها؛ وإنما تناول شذرةً قليلة منها عن حديث: (نحن أولى بالشك من إبراهيم).. يعني (لم يشكَّ إبراهيم عليه السلام، ولو شكَّ وهو خليل الرحمن وهو أمة وحده لكنا أولى بالشك منه)، وهذا من تواضعه صلى الله عليه وسلم لأنبياء الله ورسله؛ فتناول هذه الجزئية في كتابه (العالَـم ليس عقلاً) بتخبُّطٍ إنشائي لا أثر فيه ألبتة لنظرية المعرفة والعلم؛ فأي حيرة أبكته وغمسته في الحزن؟!.
والوقفة الثانية: أنَّ مِن الفلاسفة المؤصِّلين الذين أقلقهم نورُ الفطرة المصادِم لما عليه أسْرُ بيئتهم التي خلخلتْ نظرية المعرفة والعلم مَن استراح من البكاء وبقي القلق الفكري يُغاديه ويُماسِيه.. ومنهم مَن اصطنع الاستراحة من الأمرين بقطْعِيَّة غير برهانية، وصرف الفكر عن براهين ما لا سبيل إلى مشاهدته في هذه الدنيا الفانية، وهم قسمان: مِنهم من يقول: (هذا لا يعنيني، وسأعيش حياتي بشهواتها؛ لأنني هكذا وُجِدتُّ في هذا الكون؛ فممارستي حياتي الحسية، وشغل ذهني بالانتقال من معرفة المحسوس إلى العلم به هو قدري)، وأكثر الوجوديين على هذا المنهج.. ومنهم من اصطنع إيماناً عقلياً ادِّعائياً مُعَطَّلاً عن مقتضيات الإيمان التي تهدي السلوك؛ لأنه ليس في مأثورهم الديني الوضعي عبادةٌ محقَّقة إلا ما بلورته فلسفة الأخلاق التي تُراعي الأعم الأغلب مِن مردود المنفعة الدنيوية العاجلة؛ وهؤلاء هم من كان على مذهب (باسكال) في مراهنته المشهورة.
والوقفة الثالثة: أن القصيمي ليس عنده شيئٌ من الصُراخ والبكاء والحزن الأليم مما مضى في الوقفتين السابقتين، بل هو في منتهى البهجة واللذة والأُنس، ورِزْقُه يأتيه رغداً من غير كدٍّ؛ وإنما كان يَصْطَنِعُ الحُزن والبكاء، وليس كل من قال: (أبكي) باكياً على الحقيقة؛ ولهذا قلت في كتابي ليلة في جاردن سيتي بصريح العبارة: (إنَّ عَويله وصراخه لا يعني الإخلاص للفكر، بل هو تَناوُحٌ على الهامش دون الصميم)؛ فهذا صراخٌ ادعائي، وأما قولي: (إن القصيمي يُرِيدُ أن يكون العقل صراعاً مع الأفكار المتوحِّشة لنواجهها ونتحدَّاها كما نفعل في الطبيعة المتوحشة): فليس في هذا أيُّ دَلالة على أنَّ القصيمي ناحَ أو بكى لا حقيقة ولا ادعاء؛ وإنما قولي حكاية لخيالاته التي تجعل مسألة الإيمان قضايا متوحِّشة؛ بناءً على ما عنده مِن عُقْدةِ القضاء والقدر التي سأتحدث ُ عنها.. وأما الطبيعة فقد جعلها الله مهداً للأحياء من الحيوان والنبات؛ وميَّزَ الإنسان بالعقل؛ ليُحَوِّل حسب الحاجة وحسب القدرة ما استوحشه الإنسان إلى مكان آمن، ولا هيمنة له على الطبيعة كلِّها؛ لأن الله جعل للطبيعة مَنَعَةً، ولأن الله جعل جُهد الإنسان مهما ترقَّى علمه محدوداً، ولأن هيمنة الله على الطبيعة شاملة، والإنسان جزءٌ من الطبيعة.. وأَزيدُ أخي سليمانَ اعترافاً لعله لم يقرأه، وهو أن كل ما كتبه القصيمي بعد رِدَّته نواحٌ رومانسي مُصْطنع لم يصدر عن قلب ٍ حزين، ولا عن عقلٍ بُلِيَ بالحَيرة بعد أن تَعِبَ وكدَّ؛ فالقصيمي في عافية من إتعاب العقل في النظر، ومن إتعاب عينيه في القراءة؛ وإنما يسترسل بأسلوبٍ إنشائي مَـخَّاخي (أي منزوع الدسم)؛ ولهذا أُلخِّصُ ثلاثين صفحة في بضعة أسطر بصفحةٍ واحدة؛ لأنه مُسهبٌ بمفردات الألفاظ والجُمل، ومُسهبٌ بالتكرار نصّاً مما يُمِلُّ ويُؤذي، وكلُ إنشاءاته لا تَرْكَنُ إلى مصادر تدلُّ على سعة العلم، ولا تَضَعُ بديلاً لكل ما هاجمه بالدعوى والتمويه من حقٍّ وباطل وخيرٍ وشر وجمالٍ وقبح كما فعل من أقلقه نضوج الفكرة وتضليل البيئة.
والوقفة الرابعة: أنَّ مِن الذين أرهقوا أنفسهم بالقراءة، وغلبتهم أعباء البيئة التي وَرِثت ديناً وضعياً ذا جسارة على العقل، وأَعْمتهم عُقْدة القضاء والقدر، وانصرفوا بسلوكٍ حُرٍّ عن براهين الإحسان والعدل والحكمة، وقالوا: (نعيش قَدَرَنا الذي وُجِدْنا عليه، وهو قَدَرٌ تتنازع فيه الغرائز)؛ فآثروا حياةً هيبية، وقالوا: (نحن نخلق ما هِيَّتنا بعد البلوغ؛ بأن لا نؤذي حُرَّيةَ الآخرين، ونعيش بعد ذلك حُرِّيَتنا، ولا شأن لنا في التفكير فيما لا سبيل إلى معرفته بالحسِّ، ولا شأن لنا في التفكيرفي الـمَوت، وأن وراءه سيكون بَعْداً).. إن مِن هؤلاء مَن استرحل الأدب لاسيما الرواية والمقالة الأدبية من أمثال (البيركامو)، وهكذا (سارتر) إلا أنه في بعض أعماله مُؤصِّل ولا سيما في كتابه (الوجود والعدم)؛ فهؤلاء حاولوا باسترحالهم الأدب الجمالي استجاشةَ العواطف مقرونةً بالنوازع الغريزية المتضادَّة، ولم يَعْبأُُوا بحتميات العقول؛ وإنما عندهم شيئ سَلَّموا به بتضليلٍ عقلي.. والقصيمي سلك استرحال المقالة الفنيَّة فقصَّر عنهم بكثرة الفضول حسب أعباء منهجه التي أسلفتها، ولم يضع مُسَلَّماتٍ ولو ادِّعائية ترتدُّ إلى شُبَهِ العقول، ولم نجد في هَذْرِه الطويل أيَّ دلالة على قراءة مستوعِبة وثقافة وسيعة.. وأما ثقافته التراثية فقد ودَّعها وتناساها بعد صدور كتابه (هذه هي الأغلال)، وإلى لقاء إن شاء الله مع الوقفة الخامسة، والله المستعان.