إن عملية تأصيل العلوم الاجتماعية إسلامياً، لا يعني أنها تدخل في إطار العلوم الشرعية، وإنما هي علوم وضعية تدور في فلك الشريعة الإسلامية سواء كان ذلك على مستوى الفهم الفردي أو الاجتماعي أو التربوي أو الثقافي للإنسان.
وأعتقد لدينا مشكلة كبيرة جداً، وهي الجهل بالتجربة الخاصة في العالم العربي نجد المختصين لا يدرسون إطلاقاً تجاربنا في العالم العربي، تجارب العلوم الاجتماعية في العالم العربي، إذا أردنا أن ندرس تاريخ علم النفس ندرسه كما هو في الغرب، ليس هناك فصل خاص لتجربة علم النفس في العالم العربي، أو تجربة علم الاجتماع في العالم العربي، أو في العالم الإسلامي، لا يوجد شيء من ذلك، وبالتالي هناك جهل بإسهامات البعض، وحتى تلك الإسهامات التي تحصل من بعضنا تقبر في مكانها إن لم يتلقفها غربيون فيطورونها.
والحقيقة المرُة والمؤلمة حقاً، هي أننا حتى اليوم نحاول جاهدين أن نجد أقصر الطرق إلى التقدم العلمي كي نسلكها، متجاهلين أن أي مجتمع متقدم علمياً لابد أن يبدأ هذا التقدم من أساس ثابت وراسخ. تقتضي فكرة التأصيل الإسلامي التأكيد على النظرة المقارنة بين الواقع الإسلامي الراهن والماضي التاريخي له، مع توضيح دور المفكرين المسلمين الرواد في قضايا العلوم الاجتماعية، وذلك ليكون للتأصيل خلفيته التاريخية الواضحة في هذه العلوم.
إنه من واجبنا أن نقاوم عملية علمنة وتغريب العلوم الاجتماعية، وأن نفرض هويتنا الدينية والثقافية بقوة وحزم، فالخدمة الاجتماعية مهنة في المجتمع الإسلامي ومن غير الممكن أن تنهض بدون عملية تأصيل إسلامي شاملة وكاملة لها.
فيجب أن يكون القرآن الكريم في جميع جامعاتنا وكلياتنا، هو البؤرة والمحور الرئيسي الذي تدور حوله مختلف الأمور، ولابد أن يتم تدريس كل الموضوعات في ضوء القرآن الكريم؛ لتلافي الاختلاف الكبير بين الدراسة الدينية والعلمانية.
إن استقلالنا بتصورنا الإسلامي ضروري للإبداع وبناء مشاريع التأصيل، وهذا لن يكون من غير النظر المباشر في القرآن والسنة، وهذا سوف يمنحنا استقلال الرؤية المعرفية والأصالة في الفكر، وسوف يكشف عن مفاهيم نفسية جديدة، كمفهوم التوبة ليس لعلم النفس مثلاً كبير عناية به، وإذا كان علماء النفس في الغرب قصروا في ذلك، فلماذا نحن نقصر مثلهم؟، ونبتعد عن أمثال هذه المفاهيم النفسية الأصيلة.
ولمعالجة هذا الوضع، والذي لا يجب أن نصبر على تحمله أكثر من ذلك يصبح لزاماً علينا، وعلى المجتمع المسلم بوجه عام، وعلى المتخصصين الاجتماعيين خاصة، أن يأخذوا عهداً ومؤثقاً بتغيير كل توجهات وسياسات أعمالهم، فبدون ذلك لن نتخطى الغرب، ولا حتى مجرد اللحاق به.
وأنا على يقين بأن العلماء ونحن معهم القادرون على قلب هذا الوضع، والذي لابد له أن يقلب، فلابد للمعاهد التعليمية في البلدان الإسلامية والعربية أن تتضمن مقرراتها مبادئ ومقتطفات من أحدث العلوم، وليس من علوم مضى عليها مئات السنين، ولابد لعلمائنا وباحثينا أن تكون لهم نظرة مستقبلية، وألا يقتصر دورهم على مجرد الاعتزاز بمنجزاتهم الماضية، وأن يكون على يقين، بأن تراثهم ليس عقيما ومجدبا ونضب فيه كل ينابيع العلم والمعرفة، ليعلموا بأن انخراطهم مرة أخرى في تيار العلوم الغربية، انخراطاً غير بنّاء، بل هو عقيم وضاّر، ومنذ القرن الخامس عشر لم يضفّ المسلمون أيّ جديد ولا مفيد إلى الحياة العلمية، ومنذ تلك الفترة أيضاً أصبحت العلوم الدينية في العالم الإسلامي بمثابة مستودع لهذا النوع من الفكر الغربي، حيث كان التركيز في تلك الفترة منصباً على التبعية دون الأصالة والتجديد اللذين لم يواجَها بعدم تشجيع فحسب، بل كان ينظر إليهما نظرة عداء وخصومة.
فقد يمر المسلمون اليوم بفترة من أقسى فترات التحدي في تاريخهم الطويل، ويبلغ هذا التحدي مداه في مجال العلوم الاجتماعية، حيث تخلفت الدول الإسلامية تخلفاً ملحوظاً، لأنهم بواقعهم الحالي لا يزالون يعيشون خارج نطاق الزمان والمكان، بل لعل موضوع فقدان التأصيل الإسلامي من الهموم الأساسية التي يعاني منها العالم الإسلامي، والتي تقتضي الكثير من النظر والتدبر والمساهمة من الجميع.