كثيرا ما استوقفتني تجارب الشباب في حياتهم الراهنة وأحضرت لي بخفة بالغة تلك المواقف ذاتها الشبيهة التي مر بها جيلي حين كنا في المرحلة العمرية ذاتها، لتطوف المفارقات، وتنشط همة التحليل،والتأويل،والتعليل..والمقارنة ..
وفي كل مرة أجد أن هذا الجيل يتمتع بكثير لا يضاهي ما تمتع به جيلنا من الإمكانات التي تعينه على الكثير من إثراء تجاربه في مناح عديدة،ومسارات عدة لا يحتاج فيها إلى ما بذلناه وعانيناه وحفرنا فيه التراب..بل الحجر..!
هناك الكثير مما تغير، وتطور، وهناك الكثير مما تأملنا فصار، ومما صار، ولم يخطر لنا ببال..والعجلة دوارة ولسوف يجد هذا الجيل نفسه ذات موقف شبيه في المقارنة ذاتها من الأجيال التالية..حتى يقضي الله بأمر هذه الأرض ..
مع أن العقود الأربعة وإن زيد إليها،أوالخمسة وإن نقص منها في مجال علاقة البيئة التي كنا فيها مع ثقافات مختلفة، وتجارب أمم بعيدة مثلا، وبين البيئة ذاتها بعدها ليست في عمر الأمم ذات أهمية كبرى، إلا ما كان من أهميتها في عمر البشر، لكنها في عمر هذه البلاد ذات فارق شاسع نسبة لما كانت عليه بيئتنا التي نشأنا، وتعلمنا فيها، وكنا بالكاد نحصل على الكتب، أو نتعرف الأخبار، أو نتواصل مع البيئات القريبة ناهيك عن البعيدة عنا.. البون شاسع وفارق بين ما كان،وما هو عليه الآن حال التغيرات بالغة السرعة، التي يعيشها الجيل الراهن، ونعيشها معه، ولسوف يتطلع هذا الجيل لما سيكون عليه أمر القادم الذي يليه ولكن أتوقع أنه سيكون أقل بونا مما هو البون بين ما كنا فيه وما نحن فيه الآن ونحن ندب معهم على الأرض ذاتها، ونتفاعل مع المتغيرات معه، ونفيد منها ونضيف إليها، بما لا يملكه هذا الجيل الذي نشأ في زمن اللقمة الملفوفة بورق، والشربة على الطريق..، والمعلومة الجاهزة،والكتاب المضغوط..!!
لقد اتسعت لهم كل المعابر، والتحموا بكل الثقافات، وتمكنوا من روافد المعرفة، والعلوم، وجيء لهم بما لم نكن نجده، وتحقق لهم ما لم يتحقق لنا من الفرص الكثيرة، والإمدادات الوفيرة..
كلما قلبت ناظري بين صغيراتنا في المدارس، وشاباتنا في الجامعات، حضرت لذاكرتي صورة جيلي حين كنا نكافح من أجل الحصول على كتاب لا توجد في الرياض كلها نسخ منه إلا واحدة، وتكون عند شخص واحد، لضيق دائرتنا نصل إليها واحدة عن الأخرى،وقد كنا في المراحل كلها نعاني فاقة الكتب، وإلى مراحل الجامعة حين تعلمنا، وكانت مكتبتها ليست في يدنا إلا عن طريق أب أو أخ.. وإذا ما حصلنا على النسخة الفريدة فإن واحدة بعد الأخرى تذهب نتلقفها لتقرأه، ومن ترغب في أن تنقل منه ما يروق لها للاستعادة فبخط يدها، وظل الحال حتى الجامعة ..، بيد أن معلماتنا من ثم أساتذتنا كانوا بحرا في العلم أفادونا بأكثر مما أفادنا كتاب أو دورية..! كذلك كانت مصادر ثقافتنا في الأسرة و الأهل، ثقافة منظمة مستديمة متنامية ..مما يجعلني أقارن بين إمكانات النمو المتسارع في متغيرات الجيل الراهن وروافد ثقافته ومستوى والديه المعرفي والثقافي وبين ثقافة الجيل أو الأجيال التي سبقته، والكفة ليست راجحة له في جوانب، بينما ترجح بمكتسباته التي حصدها جراء التعارف البشري والامتزاج مع حضارته المختلفة ومنجزاته حيث حصد هذا الجيل ثقافة التقنية ومعارفها.. وهذا لم يكن يتوفر لمن سبق..
هذه المقارنة بهدف أن يستفيد هذا الجيل ومن سيكون بعده مما قدمته لهم متغيرات وقتهم من المنجزات، ليس استفادة تبعية،وإنما الولوج منها إلى ماهو أجد، وأنفع،وأبدع،وأثرى،وأقوى...
ولكن في ضوء تخليصها بعد إدراك،ووعي تامين مما يعتريها من النوايا التوسعية،والاختلافات التدميرية، والخلطات السياسية، التي تغلف كل الذي يدور من حولهم في هذا الكون المتوقد..
ففرصة هذا الجيل الأخذ والتفاعل الخلاق لإعادة البساط لأمته،ليكون تحت قدميها..
فليكن له هذا الجيل ومن سيأتي من بعده ولو هذا الهدف ..ليتواصل مع ما قدمته له الأجيال التي سبقته من الدعامات، وحجر الأساس مع شح الموارد، وصعوبة الإمكانات..!