قدمت قناة أم بي سي للمشاهدين مقابلات مع موقوفين في قضايا إرهاب، كان أبرزها تلك المقابلة التي تمت مع وليد السناني، والذي قدم للمجتمع إجابات توضح حقيقة الفكر الجهادي السلفي في المجتمع، والذي لازالت بعض فئات المجتمع القليلة تجد في طرحه المتطرف بعض القبول، وقد تعجبت كثيراً مما حدث، فقد ظهر رجل معادي لمفهوم الدولة الحديثة، ويعلن مواقفه التكفيرية والمتطرفة ضد الدولة والمجتمع في قناة تلفزيونية قد يعتبرها البعض أحد وجوه الإعلام الرسمي، في حين كان تناول مثل هذه المواقف وغيرها في أزمنة مضت يعتبر من المحظورات السياسية.
مما ظهر في المقابلة يتضح أن وليد السناني وغيره لا يزال يعيش فكرياً في زمن القرن الثامن العشر الميلادي، وهي الفترة التي باركها في المقابلة، عندما تمنى أن يعيش في زمن الدولة السعودية الأولى، والتي كان الجهاد يمثل السياسة العليا في الدولة، وتغيب عنها مفاهيم المواطنة التي جاءت بها الدولة الثالثة، والتي يرفضها الفكر الجهادي، ويطالب بقيام دولة المؤمنين على أساس مذهبي، في حين تسقط تلك المنزلة عن المخالفين، وتهدر دماء الكفار المعاهدين، وهم بذلك ينادون بإرجاع المجتمع إلى فترة زمنية سابقة، والتخلي عن مواثيق العلاقات السياسية والحقوق الإنسانية، والتعامل مع الآخرين من خلال مبدأ اسلم تسلم.
يدعم بعض أوجه الدولة القديمة الفهم المتطرف الحالي للشريعة الإسلامية، والتي قامت على فكرة الجهاد من أجل نشر الحق ومحاربة البدع، والإشكال في الأزمة مع الجماعات المتطرفة أن بعض العقول لا يزال يعتقد أن الزمن لم يتغير، ويتوجب الاستمرار في محاربة البدع والشرك، وقتال الكفار من أجل نشر كلمة الحق، ولو كان الثمن قتل النساء والأطفال والأبرياء من غير المسلمين، ويبدو أن الرسالة وصلت، فقد ظهر للجميع أن بعض فئات المجتمع لا تزال ترفض المفاهيم الحديثة في العلاقات الدولية، وتعتقد أن مفاهيم حقوق الإنسان والمجتمع المدني والديمقراطية من الكفر الذي تجب محاربته.
يتضح من تلك المقابلات أن ثمة اختلاف كبير في فهم الشريعة، وتلعب الجغرافيا والتاريخ الحضاري دوراً كبيراً في ذلك، فقد اتضح أنه ليس فقط الفقيه الأوروبي يفهم الشريعة بمفهوم مختلف عن الفقيه الذي يعيش في بعض مناطق الجزيرة العربية، ولكن أيضاً ظهر الاختلاف واضحاً بين الفقهاء المعاصرين في مناطق الدعوة الإسلامية، وبدأت مرحلة تصنيف للفتاوى على أن بعضها كفري، وذلك لتحاشي تكفير المفتي المخالف، في حين يجوز تكفير غيرهم، وتلك لغة جديدة، لم يعرفها الفقهاء الأوائل، وتأتي خطورة التكفير أن ذلك يعد إهداراً لدم المكفَر، وهو أمر في غاية الخطورة، وذلك ليس بجديد في تاريخ الدولة الإسلامية، والتي تعاقبت عبر التاريخ على أسس تكفير الدولة القائمة، ثم قتالها.
الجدير بالذكر أن هذه المواقف العدوانية لمفهوم الدولة ليست خاصة بالمسلمين، إذ يقدر عدد المنتسبين إلى الجماعات الإرهابية بالولايات المتحدة الأمريكية بحوالي 5 ملايين متطرف داخل الولايات، يحملون كراهية عنيفة مدمرة للحكومة الفيدرالية الأمريكية، كان من أبرز جرائمها انفجار أوكلاهوما سيتي الذي راح ضحيته 168 شخصا، منهم 19 طفلا، و كانت صدمة الشعب الأمريكي كبيرة عندما اكتشف أن المأساة التي لم يدركها قبل يوم التاسع عشر من إبريل 1996، أن مرتكب الحادث كان مواطنا أمريكيا يدعى “تيموثي ماكفاي”، وكان ينتمي لتلك الجماعات الدينية المتطرفة.
من أبرز أفكار تلك الجماعات أنهم مرتبطون بالماضي ارتباطاً خالصاً، ولا يكتفون برفض الواقع، ولكن يطالبون أيضاً بإعادة العجلة إلى الوراء، وإحياء الأفكار القديمة التي تفرق الناس على أسس دينية وعرقية، وترفض المساواة في المواطنة على أسس مدنية، وينص دستور الميليشيات المتطرفة على عدم تجاوز الفرد لدوره في الجماعة و عليه ألا يتعرف على القائد الأعلى، كما يدين الأعضاء بالولاء الكامل للقيادات التي لا يقابلونها ولا يعلمون عنها شيئا ولا طبيعة مناصبهم، بحيث إذا وقع عنصر في قبضة السلطات الأمنية لا يؤدي إلى سقوط العناصر الأخرى.
في نهاية هذه المقدمة الشائكة لموضوع في غاية التعقيد، سيظل السؤال قائما حول مستقبل الدولة الحديثة، وهل نستكين إلى نداءات العودة إلى الدولة القديمة تحت سلاح التهديد بالتكفير وإراقة الدماء، أم أن الحل يكون فقط بإطلاق الريح لساقي التقدم، قبل أن تفرض الجماعات المتطرفة كلمتها، ونظل للأبد سجناء مرحلة اللا مستقبل واللا ماضي...، وختاماً يعتقد الكثير أن الإصلاح بكل ما تعنيه الكلمة كفيل بإحداث حالة القطيعة التامة بين هذه الجماعات وبين المجتمع، والله على ما أقول شهيد.