لأنك - ذات يوم - اخترت سنابل الإنتاج، وحصدت ثمارها، ودونت ما يجوب في الفكر، وما اكتسبته من تجارب علمية، وعملية في موقع التعليم، ووظيفتك التي انحصرت في تربية جيل، وتنشئته، فكانت متعة الحياة لديك سعي دائم إلى المعرفة، وإلى الجديد، وإصرارك على بلوغ الهدف، دون أن ينحصر فيك الطموح؛ ولأن طاف بي الخيال نحو المستقبل برفق، فإنني لا زلت أتذكر - وأنا أحد رجالات هذا الميدان - أجمل ما في حقبة تسلمك لحقيبة التربية، والتعليم في بلادنا، وأنت ترسم أجمل ما في الواقع ملموسا، ومحسوسا، حين اخترت وقت المعركة، وأرضها، وأعددت لها العدة؛ ليتحول هدفك إلى واقع لا يضمن المستقبل - فحسب -، بل يبدأ منه الفرد في بناء مجتمعه، ومجتمعه في بناء وطنه.
لقاؤك أبا أحمد، ما برح يجول في ذاكرتي، عندما ترك في نفسي أثرا لا يمحى، وانطباعا صادقا في حكمنا على الأشخاص، فالعين مرآة القلوب. - ونشهد الله - أن نجاحك لا يقاس بما حققته، بل بمدى طموحك الذي سعيت؛ لتحقيقه، إيمانا بضرورة التغيير، حتى وإن سرت في أثر من سبق؛ لكنك شققت طريقا سرّ في أثرها من جاء بعدك من الخلف.
هكذا الدنيا، لقاء، ووداع، تزول، ويبقى الصحاب، ولا يكون السرور إلا بعد الممات، عندما يصلح عمل الإنسان. وبما أن: «كل نفس ذائقة الموت»، فقد شاء الله أن تكون منيتك سريعة، دون أن يمهلك الموت كثيرا، وهذا من أصعب لحظات الموت، حين يختطف من نحب من دون إنذار، فينهي كل شيء؛ لترجع الأمانة إلى واهبها.
في نواحي الليل، سينشدك محبوك كلما أمضهم الشوق؛ عسى أن يجدوك؛ ليتعزوا بك، حتى وإن تفجرت ينابيع عيونهم على وجناتهم؛ لكننا لن نجد سبيلا لسلوانك سوى الصبر، فمرارة الحياة سنتجرعها بكؤوس مليئة بشراب الأحزان، وسنبوح بالشوق، وإن قتلتنا الأشواق، وسنجدد العهد، ونؤرخ لذكراك، فالعين التي سقطت دمعاتها عند اللقاء، هي التي ستذرف دموعها عند الفراق، إلا أن من حقك علينا أن ندعو الله: أن ينزل نورا من نوره عليك، فيعطر مشهدك، ويطيب مضجعك، ويؤنس وحشتك، وأن يريك نورا تطمئن به؛ لتُبعث آمنا مطمئنا.