عادت أعمال العنف والحرق من جديد الى جهات عدة من البلاد أول أمس الأربعاء، إثر احتجاجات شعبية قادها اتحاد الشغل مستغلاً غضب سكان المناطق الداخلية المحرومة من التنمية، على خلفية قرار حكومة الترويكا إحداث أقطاب صحية في البعض منها مستثنية البعض الآخر.
فقد خرج أهالي محافظات قفصة والقصرين بالجنوب وسليانة بالشمال الى شوارع المدن للتنديد بما أسموه تجاهل الحكومة لمطالبهم بإنجاز مشاريع تنموية بجهاتهم التي ظلت طيلة عقوداً تعاني التهميش والفقر وقلة مواطن الشغل. وجابت المسيرات السلمية في بداية يوم أول أمس الأربعاء الشوارع لتخلف أعمال عنف إدت الى حرق أحد مقرات حركة النهضة بقفصة وإتلافه بالكامل مما اضطر قوات الأمن الى التدخل واستعمال الغازات المسيلة للدموع لتفريق المحتجين وإيقاف الفوضى العارمة التي تلت الإعلان عن إضراب عام بهذه المحافظات التي انتفضت بعد أن كان الهدوء قد عاد إليها خلال الأشهر الماضية.
أعمال العنف التي تواصلت الى ساعة متأخرة من ليلة الأربعاء أدت الى سقوط عشرات الجرحى في صفوف المتظاهرين وأعوان الأمن على حد سواء الى جانب إلحاق أضرار بسيارات الشرطة وبمقرات الأمن ومؤسسات عمومية، مما أجج غضب المتساكنين الذين ظلوا خارج بيوتهم رافضين الانصياع لأوامر الأمن الذين تم رشقهم بالحجارة، بوجوب التزام الهدوء وإخلاء الشوارع والتوقف عن محاولات اقتحام مقرات المحافظات بنية حرقها.
فقد أعلنت وزارة الداخلية التونسية أمس الخميس أن أكثر من 50 شرطياً أصيبوا بينهم اثنان حالتهما «خطيرة» في مواجهات الأربعاء مع متظاهرين في سليانة (شمال غرب) التي شهدت أمس إضراباً عاماً وتظاهرة بمناسبة مرور عام كامل على قمع الشرطة احتجاجات شعبية عارمة في المنطقة أصيب خلالها أكثر من 300 متظاهر. وأوضحت الوزارة في بيان نشرته على صفحتها الرسمية في فيسبوك أن «مجموعة من المنحرفين» حاولوا بعد انتهاء التظاهرة اقتحام مديرية الأمن في سليانة «وقاموا برميها (..) بالحجارة».
واتهمت حركة النهضة الحاكمة قيادات اتحاد الشغل الذي يرأس الرباعي الراعي للحوار الوطني، بالوقوف وراء أعمال العنف والحرق التي طالت أحد مقراتها الجهوية، وكادت أن تؤول الأمور الى ما لا تحمد عقباه لولا تدخل الأمن في الوقت المناسب، فيما نفى الاتحاد التهمة الموجهة إليه، والحال أن تمثيلياته في الجهات هي التي دعت الى شن الإضرابات والى تحريك الشارع من جديد. وفي السياق نفسه استجاب قطاعان حيويان لدعوة الإضراب وهما قطاع الصحة والمالية مما عطل مصالح المرضى من قاصدي المستشفيات ومصالح المواطنين الراغبين في الاستفادة من خدمات القباضات المالية العمومية.
وينتظر أن يشهد اليومان القادمان دخول قطاعات أخرى أكثر حيوية على غرار النقل بحراً وجواً وبراً في إضرابات ستزيد الأوضاع المعقدة تازماً، في وقت يسعى فيه الرباعي الراعي للحوار الى حلحلة الأزمة السياسية والى إيجاد حل توافقي بين الأحزاب المشاركة في جلسات الحوار بشأن المسارين الحكومي والتأسيسي.
وبنجاح اتحاد الشغل في تحريك الشارع مرة أخرى ودون سابق إعلان او تحضير، يكون الاتحاد أحد أبرز أطراف الرباعي الراعي للحوار، قد أطلق رصاصة الرحمة على ما تبقى من آمال في عودة الفرقاء الى التحاور بشأن النقاط الخلافية التي كانت شدتها قد أدت الى تعليقه منذ قرابة الشهر دون أن تنجح جهود الرباعي في إعادة قطار الحوار الى السكة.
ويرى المراقبون للشأن السياسي أن دعوة اتحاد الشغل الى الإضراب العام في بعض المحافظات وما خلفته الاحتجاجات من أعمال عنف، ينبئ باتخاذ الاتحاد موقفاً مغايراً لما يبديه منذ أشهر من عزم على رأب الصدع بين أطراف النزاع القائم بين حكومة الترويكا بقيادة النهضة وأحزاب المعارضة بقيادة حزب نداء تونس ومباركة الجبهة الشعبية المعارضة.
ويعتقد بعض المحللين السياسيين أن في انتهاج الاتحاد لسياسة لي ذراع حكومة النهضوي علي العريض، إعلان شبه رسمي بفشل الحوار الوطني ودخول البلاد في متاهة الفوضى. وما الانتفاضة الشعبية في بعض محافظات الشمال والجنوب سوى إيذان ببدء سيناريو خطير كانت كل الدلائل تشير الى أن الاتحاد يسعى الى تجنيب البلاد الدخول فيه.
من جهة أخرى، سادت الفوضى والتلاسنات الجلسة المخصصة لإعادة النظر في التنقيحات التي كانت أدخلتها كتلة حركة النهضة بالمجلس التأسيسي على عدة فصول من نظامه الداخلي، وكان نواب الحركة قد أبدوا انضباطاً كبيراً عند التصويت على إلغاء التعديلات بعد لقائهم بزعيم النهضة راشد الغنوشي الذي «تولى تعديل الأوتار قبل تعديل التعديلات»، في حين ظل نواب كتلة «ائتلاف السيادة للشعب» على موقفهم من رفض الرجوع عن التنقيحات وساندهم عدد قليل من النواب المستقلين. إلا أن معارضة الكتلة الجديدة بالمجلس لقرار النهضة إلغاء تنقيحات بعض الفصول لم يمنع أغلبية النواب من التصويت بالموافقة.
ويذكر أن رئيس كتلة النهضة بالمجلس التأسيسي الصحبي عتيق، كان أعلن يوم 20 نوفمبر الجاري، عن قرار الحركة إلغاء التنقيحات التي كانت أدخلتها على النظام الداخلي للمجلس معللاً ذلك بحرص النهضة على دعم التوافق وإنجاح الحوار الوطني والمسار الانتقالي. علماً وأن هذا القرار أحدث شرخاً صلب الكتلة النهضوية بالمجلس استدعى رتقه تدخل الغنوشي شخصياً وإعطاءه الأمر للمعارضين للقرار بالرجوع عن موقفهم ودعم القرار الرسمي للحركة في مسعى الى إشاعة الانضباط والالتزام صلب الحركة حفاظاً على تماسكها الداخلي وتكذيباً لكل الإشاعات المغرضة التي روجت لخبر تصدع النهضة من الداخل وانقاسمها.
إلا أن المهم، أن عقبة التعديلات قد تم تجاوز أغلب نقاطها الخلافية، بما من شأنه إعطاء دفع قوي لجهود إحياء الحوار الوطني الذي لم يبدأ بالتعافي الى اليوم ولا توجد مؤشرات تؤكد قرب انفراج الوضع وبالتالي عودة الفرقاء الى طاولة الحوار المعطل منذ شهر تقريباً. بل بالعكس، فإن ما تعيشه بعض المحافظات من انفلات شعبي وفوضى خطيرة يقيم الدليل على اصطفاف اتحاد الشغل الذي يقف وراء كل هذه الاحتجاجات المتجددة، وراء الداعين الى استقالة حكومة الترويكا بالضغط عليها وعلى حركة النهضة بغرض دفعها الى القبول بمرشح المعارضة لمنصب رئاسة الحكومة المستقلة.