لقد كُتِب الشيء الكثير عن الشعر النبطي؛ تسميةً ولغةً ومضموناً. وفي الأيام الأخيرة أعيد الحديث عنه. وكنت قد تحدثت عنه- قبل عشر سنوات - في مجمع اللغة العربية بدمشق، الذي أنا عضو مراسل فيه؛ وذلك ضمن حديث
عنوانه: اللغة العربية بين الواقع والمأمول. وفي ذلك الحديث تناولت باختصار واقع اللغة العربية في أقطار أُمَّتنا. ومما قلته عن واقعها في دول مجلس التعاون الخليجي بالذات: تَركَّز الحديث على مسألتين: وهج العامية؛ وبخاصة في الشعر، في وسائل الإعلام، وجعل اللغة الإنجليزية مزاحمة للغة العربية.
على أن وضع اللغة العربية في هذه الدول ازداد سوءاً بعد حديثي المشار إليه. وقد كتبت عن شيء من ذلك في مقالة عام 2005م بعنوان: الجانب الثقافي للأمركة. وفي مقالة نُشِرت في 19/3/2012م بعنوان: التأمرك في مهبط الوحي ومهد العربية، ومما ذكرته في تلك المقالة أن مسؤولين عن التربية والتعليم باتوا يرون أن التقدُّم المعرفي مرهون بأن تكون اللغة المستعملة للوصول إلى المعرفة لغة غير عربية، ونتيجة لهذا الرأي غير الصائب سمحت الوزارة للمدارس غير الحكومية أن تكون لغة التدريس أجنبية؛ ابتداء من السنة الأولى الابتدائية.
وبعد ذلك تَركَّز الحديث على مسألتين: وهج العامية، وبخاصة في مجال الشعر، في وسائل الإعلام، وجعل اللغة الإنجليزية مزاحمة للغة العربية.
أما الشعر المُتحدَّث عنه، هنا، فهو لون من الشعر العربي فصيح المفردات بعمومه؛ مثل:
يا رَكْبْ ما سِرتُوا بيُوسف ليَعْقوبْ
قَبلَ الفَجِرْ ينباجْ واللَّيلْ غِربيبْ
ومثل:
خَذْ العدلْ من كِسرى ومن حاتَمْ الصَّخا
ومن احنَفٍ حِلمهْ ومن عَمْرْو هاجسه
ضَيف العْشا يَلقَى العَشَا حَولْ بيتِهْ
ونَسْر الضَّحى يلقَى الغَدَافي مداوسه
على أن من ملامحه أنه لا يلتزم بقواعد اللغة العربية الفصحى. بل يلجأ، في معظم الأحيان إلى تسكين أواخر الكلمات، ولا يستعمل ضمائر المثنى، وغالباً ما استعمل كلمة “ اللِّي” في التعبير عن الاسم الموصول؛ مفرداً ومثنى وجمعاً، مذكراً ومؤنثاً. ومن ملامحه، أيضاً، أنه لا يقتصر على بحور الشعر المتعارف عليها باللغة العربية الفصحى، بل يضيف إليها بحوراً أخرى، وأنه يَتمسَّك بالقافية أكثر من تَمسُّك الشعر المقول بالفصحى. بل إن كثيراً منه لا يقتصر على التزام قافية واحدة في أواخر كل أبيات القصيدة، وإنما يلتزم، أيضاً، قافية في نهاية الشطر الأول من كل بيت فيها. فالشعر بالفصحى يرد فيه حرف المَدِّ قبل آخر حرف في القافية واواً أو ياء؛ مثل:
إِذا غامرتَ في شَرَفٍ مَرومِ
فَلا تقنعْ بما دون النجومِ
فَطعمُ الموتِ في أَمرٍ حقيرٍ
كَطَعمِ الموت في أمرٍ عظيمِ
فهو في البيت الأول واو، غير أنه في البيت الثاني ياء.
لكن في الشعر المُتحدَّث عنه لا يرد ذلك؛ بل لا بد أن يكون حرف المد قبل الحرف الأخير واواً أو ياء، مثال ذلك:
قِمْ لا رَعَى الله باردَ الجاشْ بَايدْ
عُمره قِضَى ما بَينْ ذِلٍّ وتنكيدْ
العُمُر ما له لو تَهقويتْ زايدْ
ولا بالخَطَرْ مات الذي موته بْعيدْ
ويختلف الكُتَّاب في تسمية هذا اللون من الشعر مُتأثِّرين، فيما يبدو، بظروفهم القُطْرية الاجتماعية. فهناك من سَمَّاه بالشعر البَدَوي؛ وبخاصة في العراق، ربما لأنه الشعر المتداول كثيراً بين القبائل البَدَوية التي هاجرت، في القرون الأخيرة، من وسط الجزيرة، من وسط الجزيرة العربية إلى العراق؛ مثل فئات من شَمَّر وعنزة. وهذا صحيح بدرجة كبيرة. لكن كان من أقطاب ذلك الشعر في العراق أُناس مثل ابن لعبون وابن ربيعة اللذين كانا حَضَريين هاجرا من نجد إلى جنوب العراق، فعاشا هناك. وإضافة إلى ذلك الحَضَر من أشراف الحجاز، كالشريف بَرَكات، وحاضرة نجد؛ قادةً وغيرَ قادة، لم يقصروا باعاً فيه عن إخوانهم من البدو.
بل إن أكثر أصحاب الدواوين الكبيرة في هذا المجال كانوا - وما يزالون - من الحاضرة.
وهناك من سَمَّى الشعر المُتحدَّث عنه بالشعر العامي. وهذه التسمية أقرب من سابقتها إلى حقيقته إذا أُخِذ ذلك على أنه لم يَتقيَّد بقواعد إعراب اللغة العربية الفصحى، لكن ينبغي ألا يتبادر إلى الذهن أنه مما يقوله عامة الناس فقط. ذلك أن أعداداً من أشراف القوم؛ حكاماً وزعماءَ قبائل وأُمراءَ بلدان، قالوا هذا الشعر، بل إن من علماء الدين والأدباء من قالوه مع قدرتهم على قول الشعر باللغة الفصحى.
وهناك من سَمَّى هذا الشعر بالشعر الشعبي؛ وهي تسمية مُتأثِّرة، فيما يبدو، بكتابة من كتبوا عن أشعار بغير الفصحى في مصر وبعض أقطار عربية أخرى.
لكن من الباحثين من يقول: إن الشعر الشعبي هو الشعر الذي يُردِّده أفراد الشعب دون معرفة قائليه. وإذا قُبِل هذا التعريف فإنه لا ينطبق على الشعر المُتحدَّث عنه لأن قائليه، بعامة، معروفون، ولا ينبغي أن يفهم من التسمية أنه وحده الشعر المُعبِّر عن خلجات الشعب، أو الذي يُعتَزُّ به دون غيره، لأن الشعر بالفصحى يفوقه تعبيراً عن قضايا الأمة.
وهو الذي يَحتلُّ الصدارة في تراثها الشعبي حقيقة.
على أن التسمية الشائعة لذلك اللون من الشعر؛ وبخاصة في نجد وشرقي الجزيرة العربية، هي الشعر النبطي.
ويرى الأستاذ خالد الفرج، رحمه الله، أن في تسميته بهذا الاسم دليلاً على أنه أتى إلى وسط الجزيرة العربية من سواد العراق لأن اسم الأنباط (أو النبيط) كان يُطلَق على فلاحي تلك الجهات التي لحق بها تحريف اللغة العربية قبل جزيرة العرب.
غير أنه من الواضح أن بني هلال، وهم عرب أقحاح - قالوا هذا الشعر قبل هجرتهم من جزيرة العرب إلى شمال أفريقيا، ولم يكونوا مُتأثِّرين بسكان فلاحي الجهات التي ذكرها الفرج.
والذي يبدو لي أن اللغة العامية كانت تسير جنباً إلى جنب مع اللغة الفصحى عبر القرون المتتالية.
أما سبب التسمية المشار إليها فيظهر أنه عائد إلى كون قائله لم يَتقيَّد بقواعد اللغة العربية الفصحى، فأصبح مثله مثل النبطي الذي لم يكن يجيدها. فكان في تسميته، أوَّل الأمر، بهذا الاسم نوع من الازدراء.
ثم أصبحت التسمية عَلَماً عليه مع مرور الوقت، ولم تعد تحمل ما كانت تحمله من دلالة دُونِيَّة. ولهذا فهو شعر عربي مَحلِّي لم يفد إلى وسط الجزيرة العربية من خارجها.
وقد وردت تسميته بالنبطي خلال القرن العاشر الهجري. ثم كان ممن ذكره بها الرحالة بالجريف، الذي زار وسط الجزيرة وشرقيها عام 1280هـ-1863م. ومن الواضح أن بعض علماء نجد كانوا ينظرون إليه نظرة دُونِيَّة.
ومن هؤلاء المؤرخ عثمان بن بشر المُتوفَّى سنة 1290هـ- 1873م. فقد قال في موضع من تاريخه: “أُنشِد في هذه الوقعة شعر كثير، لكن ليس على اللفظ العربي”. وقال في موضع آخر: “ قيل في الحصار قصيدة طويلة .. ولو كانت على اللفظ العربي - يقصد بالفصحى - لأوردتها”.
وقال في موضع ثالث: “رثى الإمام تركي بن عبد الله عدد من الشعراء، ولكن ليست على اللفظ العربي فلا تليق بهذا الكتاب”. وقال في حديثه عن فيصل بن تركي: “ مُدِح بقصائد .. على لفظ العرب ولفظ النبط”.