بالأمس كانت مناسبة مرور أربعين عاماً على حرب أكتوبر. وللحديث عن تلك الحرب يستحسن أن يشار باختصار إلى مُقدِّمتها. قبل حرب 1967م، التي كانت خسارة فادحة لأُمَّتنا كلها؛ فَسُمِّيت النكسة، كان خصوم الرئيس جمال عبد الناصر يَشنُّون عليه هجوماً عنيفاً لمرور السفن الصهيونية عبر مضايق تيرانا المصرية.
ولعلَّ هذا كان من أسباب مطالبته الأمين العام للأمم المتحدة، السيد يوثانت، بأن تسحب قوات الأمم المتحدة من عند المضايق. لكن يوثانت أخبر عبد الناصر بأنه إن أَصرَّ على سحب تلك القوات فإنه لا بد من سحبها عن جميع مناطق الحدود بين مصر وإسرائيل. وهكذا أصبح لا مفر من احتمال المواجهة العسكرية بين الطرفين المصري والإسرائيلي. وكان ما كان.
وكان اللواء الركن محمود شيت خطاب - رحمه الله - يذيع أحاديث من إذاعة بغداد مبدياً وجهة نظره الثاقبة، وتَوقُّعه حدوث ما حدث فعلاً، إلى درجة أنه حدد اليوم الذي يمكن أن يقوم فيه الصهاينة بالهجوم على مصر. وبعد ذلك الهجوم وما نتج منه من انتصار لأولئك الصهاينة واصل أحاديثه موضحاً أن المصريين لو أداروا المعركة، التي فاجأتهم، بطريقة صحيحة لما كانت هزيمتهم كما كانت، بل ربما لم ينهزموا.
وعلى أيِّ حال، فإن من نتائج حرب 1967م أن أكمل الصهاينة احتلالهم لفلسطين كلها، بل زادوا على ذلك احتلالهم لأجزاء من سوريا ولبنان. على أن زعماء العرب - وفي مُقدَّمتهم الملك فيصل بن عبد العزيز، والرئيس هواري بومدين، والرئيس جمال عبد الناصر، رحم الله الجميع - كانت روح الإرادة القوية ما زالت فيهم. ومن الأَدلَّة على ذلك أن بومدين ذهب إلى الزعماء السوفييت، وطالبهم بإعادة تسليح الجيش المصري مبدياً استعداده لدفع ثمن ذلك مهما كان مقداره، وأن الملك فيصل بن عبد العزيز تعهَّد وأقنع زعماء دولة الكويت ودولة الإمارات العربية المتحدة بأن يكون هناك دعم مالي لتعزيز الجبهتين الجنوبية (المصرية) والشمالية (السورية)، على أن تدفع المملكة نصف ذلك الدعم، وتدفع كلٌّ من الكويت والإمارات نصفه الباقي. ومن الأَدلَّة على ذلك - أيضاً - ما صدر في مؤتمر الخرطوم المشهور بلاءاته الثلاث. ومن الواضح أن ذلك الموقف المحترم المُقدَّر ناتج من رسوخ اقتناع لدى أولئك الزعماء بأن الصهاينة لا يؤمنون حقيقة بالسلم، بل يزدادون شراهة عدوانية؛ وهذا ما جعل الرئيس المصري حينذاك يطلق كلمته المشهورة: ما أُخِذ القوة لا يسترد بغير بالقوة. ولَعلَّ مما يدلُّ على التصميم في إثبات القول بالفعل الإقدام على القيام بما سُمِّي بحرب الاستنزاف، التي استمرت ثلاث سنوات، والتي أبدى فيها المصريون بطولات عظيمة. وكان من أعظم من استُشهِد فيها قائد الأركان عبد المنعم رياض - رحمه الله رحمة واسعة. ولو لم يكن من وجوه نجاح جيش مصر البطل إلا تدمير المدمِّرة الصهيونية إيلات، وبناء حائط صواريخ لمنع الطائرات الصهيونية من انتهاك المجال الجوي المصري، لكفيا دليلاً على عظمته وكفاءته. وما كانت تلك الحرب البطولية، استعداداً وتدريباً وتنفيذاً، إلا القاعدة الصلبة التي أَسَّست لحرب أكتوبر عام 1973م، وهي الحرب التي أثبت فيها المقاتل العربي عظمته بسالةً وكفاءةً.
على أن من المؤسف حقاً أنه حين كانت حرب الاستنزاف على الجبهة المصرية ملتهبة لم يكن هناك تحرُّك على الجبهة السورية إطلاقاً، بل إن ما لم يكن يَصبُّ إلا في مصلحة الصهاينة ما قام به زعماء فلسطين من ممارسات داخل الأردن أَدَّت إلى حرب مقيتة بين الجيش الأردني والفلسطينيين.
وتَهيَّأت الظروف لقيام العرب بخطوة لو لم يكن من جمالها إلا إخفاء تَحرُّكها حتى بدأت لكفى. وكانت حرب 1973م بين الصهاينة وكُلٍّ من مصر وسوريا. ولقد تَحدَّث كثيرون عن تلك الحرب، وكنت ممن تحدَّث عنها في مناسبات عديدة. ومن ذلك ما أشرت إليه في أبيات من قصيدتين، إحداهما عنوانها “الأساطير”، وثانيتهما بعنوان “رسائل من الجبهة”. وكنت قد ارتبت من تَدخُّل كيسنجر على خط تلك الحرب وثنيها عن وجهتها. وقد أشرت إلى ذلك في قصيدة الأساطير بعد أن ذكرت ما كان يقوله الزعماء العرب بعد كُلِّ حرب قاموا بها ضد الصهاينة بحيث يخبرون الناس بنصف الحقيقة. فقلت:
وأخيراً ذكروا لي
أنني أسعى إلى حرب شريفة
تكفل العزة للأجيال والنصر المؤزَّرْ
وتعيد الحق والعدل إلى شعبي المُشرَّدْ
فتقدمت أقاتلْ
وتحوَّلت إلى نار تُدمِّرْ
غير أني
بعد ما سطَّرت في التاريخ أنباء صمودي
وبدت في غرَّة الكون تباشير انتصاري
أوقفوني
غرسوا في الظهر خنجرْ
بدؤوا يحكون عن سلم وعن حَلٍّ وسَطْ
حقي الواضح بالزيف اختلطْ
فإذا الكاذب بالأمس يقول اليوم صدقا
أمس قالوا:
لا سلامْ
مع أعداء العروبة
وأنا اليوم أغنِّي وأُزمِّرْ
لاقتراحات السلامْ.
أما القصيدة الثانية “رسائل من الجبهة” فعلى لسان مقاتل من الجبهة إلى أُمِّه. ومما قاله في الأولى منها:
أُمِّي تَبرَّمت من ذُلِّي ومن دَعَتي
وهَاج في دمي الإيمانُ والثارُ
ولم تَعُدْ فَلسفاتُ الصَّمتِ تَخدعُني
وإن تصغهن “أهرام” و”أخبار”
تَعاقُب السنواتِ السِّتِّ أَوضح لي
ضَلال من جَنَحوا للسِّلم واختاروا
وأَن تحرير أَرضي لا تُحقِّقه
إلا دِماءٌ سقتها الأرضَ أحرار
ومما قاله في الرسالة الثالثة:
عَبَر القناة مُظفَّراً وتَقدَّما
جَيش تبارك زَحف موكبِه السَّما
أُمَّاه لم تَعُد الحواجزُ مانعاً
عَبَرت مواكبنا الحواجزَ بالدِّما
والخَطّ! أين حديث من غَنَّوا به
دهراً؟ على أيدي الأُباة تَحطَّما
والجيش! أَين القائلون بِأَنه
أُسطورة كبرى؟ حنا واستسلما
أُمَّاه أَين الشَّامتون بِأُمَّتي؟
دُحِروا.. هَوَى ما رَوَّجوا وتَهدَّما
وتَبيَّنوا أَنَّ العروبة أُمَّةٌ
لن يستكين إباؤها أو يُهزَما
لما دَعا دَاعي الجهاد تَسابقتْ
للسَّاحِ مُفعمةً حماساً مُضرَما
تَضعُ الفداءَ إلى الخُلودِ وَسيلةً
والتَّضحياتِ إلى الكَرامةِ سُلَّما
أُمَّاه أَين السَّاخرون؟ طلائعي
تَركتْ نَعيقهمُ المُردَّد أَبكما
وتَساؤلات المُغرِضين! تَبدَّدت
لَقيتْ بسيناءَ الجَواب المُفحِما
وعلى رُبَا الجولان تكتب أُمَّتي
في صفحة التاريخ مجداً أَعظما
لَهبٌ تُفجِّره أكفٌّ أُباتها
فَتحيلُ فردوس اليهودِ جَهنَّما
الآن يا أُمِّي أُعيدُ كَرامتي
أَقضي على ذُلِّي قَضاءً مُبرَما
وغَداً ربوع القدس تُصبحُ حُرَّة
والمسجدُ الأقصى عَزيزاً مُكْرَما
وبقدر ما كانت الرسالة الثالثة متفائلة تُصوِّر النجاح البطولي الذي تَحقَّق، وتَعد بأن الأراضي المحتلة - وفي مُقدَّمتها القدس ومسجدها الأقصى - ستصبح حُرَّة، كاد يبعث الرسالة الرابعة المُعبِّرة عن خيبة أمله، مُصَوِّراً حزنه العميق على ما انتهت إليه الأمور من توقيع على ما وُقِّع عليه في خيمة بالكيلو 101 غرب قناة السويس باتِّجاه القاهرة.
فكان مما قاله في تلك الرسالة:
تَوقَّفت طلقاتُ النَّار.. عاد إلى
مَجاهلِ الصًّمتِ صَوتٌ ضَجَّ واحتدما
والقدس ما زال مُحتَلٌّ يُدنِّسها
وغَاصبٌ في حِماها يَرفعُ العَلَما
وعُدتُ أَبحث عن حَلٍّ يُقدِّمه
من صَبَّ فَوقيَ من ويلاتِه ضَرَما
وعن وَثيقة تَخليصٍ أُقدِّمها
في خَيمةٍ جرحت من أُمَّتي الشَّمَما
ما وضع البلدين العربيَّيْن اللذين قاما بحرب 1973م (مصر وسوريا)، بعد أربعين عاماً من تلك الحرب؟
أما مصر فقد أصبحت - في نظري - مستنقعاً أتفادى الوقوع فيه والمجازفة بخوضه؟ وقد تَحدَّثت عن ذلك في مقالة نُشِرت قبل شهرين تقريباً بعنوان: “عسير فَهْم ما يجري”.
وأما سوريا فقد ارتكب المتحكِّمون فيها كُلَّ أنواع الجرائم البشعة ضد مواطنيهم وضد وطنهم، تقتيلاً وتعذيباً وتدميراً، بحيث تَحقَّق للصهاينة ما كانوا يصبون إليه بأيدي العرب أنفسهم مع الأسف الشديد والأسى العميق.
حَقَّق الله لأُمَّتنا الرشد والسداد.