ما أحوج أهل السنّة اليوم إلى عالِم رباني كالحسن .. وعام كعام الجماعة

رغم اختلافنا مع الفيلسوف سارتر إلا أنه يقول أحياناً عبارة تختصر كل ما يود المرء أن يقوله من أول حياته إلى نهايتها، ومن ذلك أنه قال في أربعينيات القرن الماضي وأثناء الاحتلال النازي لفرنسا: “إن الاحتلال دفع الناس إلى إعادة اكتشاف الوطن بدءاً من اسمه، لأن مجرد كتابة اسم فرنسا على جدار كانت تكلف من يجازف بذلك حياته”.

والسبب أن العادة في كل شيء تحوِّل الأمر إلى مألوف بحيث ننساه ولا نراه لفرط تعودنا عليه، وما أن يهدده الزوال حتى يبدأ الإنسان بمعرفة قيمة الأشياء، والتجربة خير دليل في حياتنا وحياة من حولنا، وحقيقة دائماً أفكر بطرح عدد من الأسئلة، وأحاول أن يصل تفكيري إلى كل من حولي: ماذا لو فقدنا نعمة الأمن والأمان في هذا الوطن؟.. وعاد بعضنا لا يأمن على نفسه ولا عرضه وماله؟.. ماذا لو تحوَّلت الشوارع إلى فوضى عارمة وبخاصة أن مجتمعنا مختلف المشارب وله من الثأرات التي ورثها ما يكفي لتدمير كوكب كامل؟ وماذا يستفيد حينها المحرضون والمهيجون ودعاة الفتنة؟.. وماذا يشعرون به وهم يرون أطفالهم يموتون من الظمأ والجوع إلى الحليب ويرون أعراضهم تنتهك وأموالهم التي ملأت البنوك لا يستمتعون بريال واحد منها؟.. وهل تنفعهم الجماعات والتنظيمات الحزبية؟.. وهل ستستقبلهم تركيا ومصر والعراق والشام؟ وأخيراً: لماذا يتحوّل كل مغامر سواء أكان خطيباً أو كاتباً أو شاعراً أو محتسباً إلى بطل في نظر كثير من الدهماء والسواد إن جلد الذات بطريقة تخلو من الأهداف الشرعية وإن شتم الوطن ومقدساته وثوابته وتطاولَ على علمائه وسمَّاهم بالمفترين؟

إن الفرق بين العقلاء وأولئك المغامرين أشبه بصورة الطفل الذي يدفعه بقية الأطفال للضرر بنفسه من أجل أن يُقال إنه بطل ولو فقد أعز ما يملك، ولذلك فالجماهيرية الحقة والتميُّز لا يمكن أن يأتي على حساب الوطن ورجالاته وفي ظروف تهدد الجميع مهما كان الاختلاف ومهما كان النقد والقصور, وما أكثر الوطنيين الذين جازفوا بحياتهم لمجرد كتابة اسم الوطن على جدار كما قال سارتر وكأننا في عصور الاحتلال.

أسئلة كثيرة لا تغيب عن ذاكرة العقلاء الذين يدركون عواقب الأمور ومآلات الأشياء، ونحن في هذا الوطن لا تزال حكايات الحاجة والخوف والبعد عن الدين في حياة الأجداد والجدات تملأ ذاكرتنا الجمعية، وإلى عهد قريب كانت الصدقات تأتينا من الصومال والهند وأقاصي الدنيا، فأنعم الله علينا بنعمة جعلت صدقاتنا تتجاوز من كانوا يتصدقون علينا ونصبح محط أنظار العالم المكلوم، وهذا ما يستوجب الشكر والنعمة، وإن كانت هناك حاجات إلى شيء من الإصلاح فلا تعني ضرورة تخريب البيوت وهدم الدور، بل تكون في حجمها الطبيعي وطريقتها الشرعية مع السعي إلى الخطاب اللين الهين الذي يحقق نتائج الإصلاح وعلاج مظاهر الفساد بنجاح، فيكون هدفنا التطوير وليس التغيير والنقض وإزالة الجذور التي تحتاج منا إلى مغامرة تاريخية وفواتير باهظة الثمن يدفع ثمنها الإسلام والمسلمون وأهل السنَّة.

إن الإسلام يحكم على المجمل، ولذلك قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ} فيطبق الحكم على الفرد من أجل سلامة المجموع، وقد يكون لفرد ما قضية خاصة ولكنها لا تعني أن تكون مسوغاً لإفساد المشروع بأكمله من أجل الخاص ولكن تعالج في ضوء معطياتها الخاصة، ومن أهم ما تميَّزنا به في هذا الوطن العزيز ولله الحمد رعاية الحرمين الشريفين قبلة المسلمين وحجاج بيت الله، ورعاية المنهج القويم ورسالة التوحيد والسنّة والدفاع عن قضايا الأمة الكبرى وحماية حوزة الدين وأهل السنّة والجماعة وسوادهم الأعظم، ولذلك ليس في قتال واختلاف أهل السنّة من خير البتة في الحال والمآل، فقوتنا وتلاحمنا يفرض مشروعنا على الآخرين وفرقتنا واختلافنا تجعلنا هواناً ومشتتين وفاشلين في نظرهم، وبالتالي سيعم الخراب والتدمير والانتقام من الجميع.

صدقاً، مللنا من التكفير واللعان والتأزيم والتشويش والسجون والتوقيف وقضايا يمكن لنا أن نتجاوزها ونتفاهم عليها ونتعايش في ظلها بشرط أن يبرز عقلاء لتبني مشروع التفاهم والإصلاح والتصالح فيما بيننا، وكلنا وكل السنّة في خطر من القوى التي تتخطفنا بعدما لمسنا منهم الخذلان، من الصديق والقريب والبعيد، لمسنا تغيير المواقف في لمح البصر ودعم أعداء الأمس والمدافعة عن مشروعاتهم التوسعية وتحكمهم في مستقبل المنطقة والله وحده أعلم بما تؤول إليه الأمور، ومما يساعد على ذلك التصالح أننا من رحم واحدة وفي مجتمع واحد ودولة واحدة، وأقولها جازماً عليها ومعتقداً لها أن منهج ولاة أمرنا وهيئة كبار علمائنا وبقية العلماء وطلبة العلم ودعاة الخير وأهل الاحتساب هم من يُمثّلون أهل السنَّة ومنهج السلف الصالح والمعتقد الصحيح الخالص من البدع والخرافات والشعوذة التي لم تسلم منها دولة ولا جماعة ولا تنظيم ولا حزب في واقع اليوم نسأل الله السلامة، وعطفاً عليه فهم أيضاً الجهة الباقية على هذه الأرض اليوم ممن يدين الله بهذا في المجمل العام، وإذا لم نحافظ على هذا المنهج فلن يحافظ عليه الآخرون ولا يكون ذلك إلا بالتنازل والعفو والمراجعة والرحمة والتحمل والصبر على الأثرة وغيرها من أجل الإسلام، وذلك قمة الأخلاق ومنظومات القيم الإسلامية في صورة تقرِّب من مشهد عام الجماعة الذي تصالح فيه المسلمون على يد سيدنا الحسن بن علي العالِم الرباني سيد شباب أهل الجنة المتنازل لسيدنا معاوية رضي الله عنهما وسموه عام الجماعة لاجتماع المسلمين وتوحيد صفهم وكلمتهم آنذاك، ويجب على كل مسلم أن يحافظ على هذا الكيان ما دام على المنهج إن كان تحمُّسه لله وإنكاره من أجل السنّة، فقد تكون لبعضنا وجهات نظر يجب أن تكون في رحمها ولا تخرج إلى هامش يفسد هذا التميز والإخلاص والمتابعة للسنّة وحمل لواء الدفاع عن أهل السنّة، فوالله إن هلك هذا المنهج ذو العقيدة الصافية، فالضرر كبير على أهل الإسلام فضلاً عن الضرر بمستقبل الناس وطريقة عيشهم ومعاشهم، ولنكن صرحاء في قراءة مشهدنا الحزين إذ ليس فيه نائحة مستأجرة بل الجميع ثكالى، والكارثة ستحل على الأطراف كلها دونما تمييز إن لم يقيّض الله عقلاء يقودون إصلاح ذات البين في المشاهد كلها الداخلية والإسلامية والعالمية، ولنبدأ في واقعنا المملوء بالتنافر والاختلاف والتصنيف والتحزب ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل تجاوز إلىلتخوين والتكفير واللعن والشتم نتيجة مواقف هي أقرب ما تكون سياسية ولها مصالحها المرسلة التي قد تخفى على البعض.

أهل السنَّة في هذا الزمن هم الحجر الأضعف في المعادلة الدولية، وسبب ذلك أن فئات منهم نتيجة حماسها وانفلات عواطفها هي التي أعطت القوى المعيار الحقيقي لهشاشة المجتمع السني الذي لا يؤمن بمرجعية ولا يحقق مبادئ التعايش مع مكونات مجتمعاته ولا يؤمن بشرعية ضرورة المعادلة الدولية، أهل السنّة تخلوا عن اللين والرحمة فيما بينهم وتحولوا إلى متوحشين مع من حولهم، خطابهم مملوء بألفاظ بذيئة، وعدائية لا يقرها الإسلام، واتهامات بالظنون، وتطاول على بعضهم، وتطبيق للولاء والبراء فيما بينهم وهم من أهل القبلة، تفجير وتفخيخ وتكفير، وهذه التي وضعت حاجزاً بينهم وبين القوى فلم يتفاهموا مع مخالفيهم ولم يتنازلوا لمصلحة أعظم وفي كل مرة تفرز لنا النتائج خسارة أهل السنَّة، ولا أدل على ذلك مما حصل لهم في العراق وسوريا ومصر ولبنان وغير ذلك من دول العالم فما السبب إذن؟

إن المتأمل في أجنحة عالمنا السني يجدها هي سبب البلاء الذي حلَّ بالأمة نتيجة صراعها الخاسر على الدنيا، بينما الآخرون متحدون ويعذر بعضهم بعضاً في كل المواقف المحلية والإقليمية والدولية ويقرون بمرجعية تقودهم إلى بر الأمان، وهذا الواقع كان من نتائجه جماعات هشة ومخترقة ودول مشغولة عن قضايا مصيرية بهذا الصراع والتأزيم والتخوين، وكان الأولى أن تنتدب الأمة عقلاءها وكبار علمائها وطلبة العلم ودعاة الخير ورجال الحسبة إلى جمع الكلمة وتوحيد الصف، لأن المواجهة في المستقبل تهدد المجتمع السني بأكمله بما فيها الدول والجماعات والخسارة والهزيمة للجميع، ولا يمكن أن ينتصر طرفٌ على طرف في ظل التحولات الدولية الراهنة، فالقضية بالنسبة للسعوديين بعامة أكبر من قيادة السيارة وتأزيم القضاء ومعارك الاحتساب وأدهى من شؤون مصر وأقسى من جحيم سوريا وأخطر من الملف النووي الإيراني، إنه يتعلق بكرامتنا جميعاً وتأثيرنا وتأثرنا بأحداث العالم المتسارعة، والتي يحرص الجميع على أن تكون له كلمة فيها والكارثة أن المراقب للمشهد الداخلي وما فيه من تأزيم يحكم على اتساع الفجوة بين السعوديين وهذا يسوغ للعالم بعدم المراهنة علينا وعدم جدوى كلمتنا وموقفنا السياسي والخاسر الوحيد هو أهل السنّة منهج السلف الصالح رحمهم الله.. والله من وراء القصد.