يبتدر إلى الذهن من العنوان دلالته العلمية الصرفة، لا أن يكون قاعدة من إحدى القواعد الشرعية لدى علماء الدين والشريعة، ومن لهم علاقة بالمؤسسات الدعوية والإرشادية. هذه القاعدة، أو المقولة الشائعة جرّها الحديث، ومن بعيد عن الأوليات في منهجية عمل الدوائر والأجهزة الرقابية في بلادنا، هل هو تطوير الإجراءات،
وسن الأنظمة المحكمة الدقيقة، واستقصاء الظواهر وسد الثغرات التي تلج منها الأخطاء والمخالفات والتجاوزات وانتهاك الحقوق العامة والخاصة، أم انتظار المشكلات والسعي إلى إيقاع العقوبات حينما تقع الكوارث والمآسي، أو تخترق الأنظمة واللوائح، أو تستباح الأموال العامة؟
* في سبيل الإقناع على صحة القاعدة، وأهمية الأخذ بها في كافة شؤون الحياة، وفي سبيل تأصيلها شرعاً يتكئ رجال الدين، وربما القضاة في مسوغات الأحكام وحيثياتها في وسائل الإقرار والإثبات على الآية الكريمة {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}، وقوله {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ}، حيث قدّم الكفر بالطواغيت وعدم طاعتهم والبراءة منهم على الإيمان بالله، ولا عذاب من غير نذر للبشر تأتي على لسان رسلهم. والعلماء والقضاة في الاستنباط والقياس يذهبون في اجتهادهم إلى أكثر مما يتصوّره عامة الناس، لذا ليس من الغريب أن تأتي بعض الأحكام خلاف ما يتوقّعه دهماء البشر، وتكون عرضة للأخذ والرد، والقيل والقال، هذا إذا لم يصل الأمر بهم حد التشكيك بالقائمين عليها، كما هو حاصل للأسف الشديد لدينا في هذا الوقت.
* سياق الآيات يتضح منه ضرورة مساعدة الإنسان وإرشاده إلى ما يجب أن تتخلص منه النفس من سائر الشرور، والآثام، والموبقات، والرذائل، وأهمية تزويده بالوسائل والأسباب التي تقوده للفلاح في دنياه وآخرته. والسمو بالنفس الإنسانية، وتزكيتها بالقيم الفاضلة المحمودة من أهم الأهداف العظيمة، وأنبل الغايات السامية التي ينشدها قادة الإصلاح على أي مستوى كان، سياسياً، أو دينياً، أو ثقافياً، أو اجتماعياً.
* على سبيل التمثيل، التنفير والتحذير من مغبة الكذب، والغش، والخيانة، والغلول، والإجحاف، وبخس الحقوق، والسرقة مقدم - انطلاقاً من هذه القاعدة- على إبراز فضيلة الصدق، والأمانة، والعدل، والعفة، والتورّع، والزهد، والإنصاف، والمساواة، ومن غير المستحسن ما قد نلحظه في سياق الخطاب الدعوي والتوعوي والتثقيفي من تقديم مثل تلك المتناقضات في موقف واحد، ووسائلنا في إيصال أي رسالة اتصالية مع الجمهور يعتورها الخلل في كثير من الأحيان، ولذلك نجد القبول والأثر في النفوس دون المستوى المأمول.
* من شأن نهي النفس عن الغي والتحذير والتنفير من المساوئ بكل الوسائل الممكنة تهيئة الفرد لقبول الفضائل، ومدعاة لتحلي الإنسان فيها، والالتزام بها في منهج حياته بشكل عام، على مستوى الأسرة، وفي مجال الوظيفة، وفي نطاق العمل وما أوكل للإنسان من مهام. إذن جناحا الإصلاح في الحياة كما يقولون، التحلية والتخلية، ولا بد من التخلية قبل التحلية.
* ربما طبيعة البشر، وفي علاقتهم ببعض والتي تحكمها مصالح دنيوية ينزعون إلى خلاف هذه القاعدة، إذ نجد رغبتهم بالتشفي أحياناً، أو تصفية الحسابات، وربما لتكالب المظالم عليهم، وشعورهم بهضم حقوقهم ومصادرتها، وقلة الخدمات المقدَّمة لهم، وعدم تكافؤ الفرص بينهم في أي مجال تجعلهم يتعادون لأتفه الأسباب وأدنى مواقف الحياة، وتضيق الأنفس والصدور، وتقل عندهم الرغبة الأكيدة في النزوع إلى الإصلاح، وتوطين النفوس على الصبر والإيمان والاحتساب والثقة بالوصول في البشر إلى منابر الإصلاح، وقدرتهم على خلق مجتمع طموح يستشرف المستقبل من أوسع الأبواب، قادر على منافسة الآخرين، والتأثير عليهم وقيادتهم بمختلف مجالات العلم.
* في رجوعنا إلى مظان التشريع عندنا، وما حوته مصادر الفكر والثقافة الإسلامية، وما خلفه الرعيل الأول من قواعد وأطر جديرة بالالتفات والتأسي بها دائماً في إدارتنا لشؤون الحياة، والانقطاع عنها لأي سبب ستجعلنا نفقد الكثير من الجسور التي يجب أن تبنى بين البشر،كما أن اليأس من الإصلاح متى تسرّب للنفوس في أي مجتمع من المجتمعات كان ذلك من أسباب وهنها، وشيوع إساءة الظن ببعضهم البعض، والتناحر والتنافر فيما بينهم وانعدام الثقة في مؤسساتهم وأجهزتهم التي تقوم على خدمتهم.