لا يعبر تماماً عن مثل هذه العبارة الدارجة «مات من البرد» هذه الأيام، إلا من مات من الأطفال السوريين الذين هربوا من الموت بالرصاص والقاذفات والطيران، وماتوا برداً وصقيعاً في مخيمات المشردين، هذا ما تتناوله الصحف ومواقع التواصل الاجتماعية، وهو أمر متوقع في ظل الهجرة المستمرة لهؤلاء، والبحث عن ملاذ آمن ومريح.
لكن ماذا عمن مات في إحدى أكبر عواصم العالم والعربي، وأكثرها دفئاً وسعادة، في عاصمة بلد عظيم جاء ذكرها في محكم كتابه: {ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ}، لكن الكاتب والفنان التشكيلي السوداني محمد حسين بهنس دخلها، ومات برداً وتشرداً، كما ورد في خبر نشرته الشروق المصرية، نقلاً عن كاتب مصري، كتب في حسابه عن وفاته: «الكاتب السوداني محمد حسين الذي لم يكن له مأوى مات جائعاً متجمداً من البرد على أحد أرصفة شوارع القاهرة بعد أن عانى سنتين من أزمة نفسية حادة».
هذا الكاتب والفنان الذي لم يكن مشهوراً على نطاق واسع، هو نموذج حي للمبدع العربي في الزمن الراهن، الذي يقضي حياته متشرداً لاهثاً باحثاً عن حياة كريمة تضمن له أدنى درجات العيش اللائق، كي ينتج ويتألق، ولا يخفى علينا كثير من المبدعين العرب الذين يعيشون على حد الكفاف، ويمرضون حتى تلفظهم ممرات المستشفيات، ويموتون في صمت وحزن، خلافاً للكتاب والمبدعين في مختلف أنحاء العالم، الذين نجد معظمهم يعيش من كتاب أو كتابين، من لوحة أو لوحتين، من فيلم أو فيلمين، بينما أدباء وفنانون عرب توالت أعمالهم أعواماً عديدة، وماتوا دون أن يجد الواحد منهم ثمن العلاج!
مات محمد حسين بهنس، بعد أن أقام معرضاً تشكيلياً في السودان عام 1999، لكن ذلك لم يرض طموحه، فشارك في معارض تشكيلية في أديس بابا، وفي دول أوروبية مختلفة، منها باريس، التي أقام فيها عام 2005 وتزوج من فرنسية، وأنجب منها طفلاً، ثم طلقها، وعاد إلى بلاده، لكنه سافر قبل سنتين إلى القاهرة كي يقيم معرضاً شخصياً، ولأنه كان متعدد المواهب، فقد كان شاعراً، ومغنياً وعازف جيتار، يلحن كلماته ويغنيها وسط أصدقائه، وفي مواقع التجمعات والميادين، فقد غنى في ميدان التحرير، كان فناناً يشعل الدفء بين الناس، لكنه افتقده ذات صقيع، فمات برداً، هكذا هو العالم العربي في الألفية الجديدة، يلتهم أبناءه المبدعين دونما رحمة!
كم من الأدباء والمبدعين العرب مات فقيراً محتاجاً، وكأنما العبارة العربية القديمة «أدركته حرفة الأدب» تعبر تماماً عن نظرة العرب إلى الأدب، بأنه حرفة بائسة، تدرك الرجل فتقضي عليه، في رزقه وعيشه، وكأنما كثرة الأدب تقضي عليه، على خلاف «قلّة الأدب»!
فحتى الآن، لا يوجد في وصف الوظيفة والعمل، مسمى أديب، أو كاتب، بل مسمى الكاتب وظيفياً في مجتمعنا تعني ناسخاً أو أقل من ذلك، فهي تأتي في ذيل السلم الوظيفي الحكومي، تنافس في ذلك وظيفة المراسل!
رحم الله الكاتب السوداني محمد حسين بهنس، ولا عزاء للأدباء والمبدعين!