في الثالث من هذا الشهر - ديسمبر - مات زعيم شعراء العامية المصرية العصامي الفذ.. صاحب أكبر مخزون من رصاص كلمات الذود عن الوطنية المصرية والعروبة معاً: الأستاذ أحمد فؤاد نجم.. أو شاعر (تكدير الأمن العام) كما وصفه الأستاذ صلاح عيسى.. أول من ترجم لحياته، وفي الخامس من الشهر نفسه..
مات زعيم مكافحة العنصرية البيضاء في جنوب إفريقيا، الذي فدى السود من أبناء جنسه بسبعة وعشرين عاماً من حياته في زنازين العنصرية.. وأقام - بعد خروجه وانتخابه - أول رئاسة سوداء لا تفرق بين البيض والسود (!!) ليطغى خبر وفاته عالمياً.. على خبر وفاة (الفاجومي) مصرياً وعربياً، تماماً كما طغت من قبل أخبار حرب أكتوبر 73م.. على خبر وفاة عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين الذي مات بعد عشرة أيام من عبور النصر الذي هز وجدان العرب جميعاً، وكما طغت من قبل القبل - عام 1924م - أخبار حادثة إطلاق النار على زعيم (الوفد) سعد باشا زغلول عند عودته إلى الإسكندرية من منفاه.. على خبر وفاة أديب العربية الكبير الأستاذ مصطفى لطفي المنفلوطي.. في ذات اليوم!!.. لكن (طغيان) خبر موت (مانديلا) اللاحق على خبر موت (الفاجومي) السابق.. ما كان له أن يمنعني عن تأبين (الأول) واللحاق بشرف تأبين (الثاني) الأستاذ أحمد فؤاد نجم، خليفة أساتذة العامية وأساطينها العظام: (فؤاد حداد) و(بيرم التونسي) و(صلاح جاهين).. الأكثر حدة وجرأة وصرامة في بلوغ أهدافه من وراء قصائده النارية.. بينهم!! لـ (أسبابه) التي تفرَّد بها عنهم..؟
* * *
فقد عرف (اليتم) بشظفه وقلته، وصفرته وشحوبه منذ السابعة من عمره.. بين سبعة عشر أخاً لم يبق منهم غير خمسة، حيث آوته فُرُش ملاجئ الأيتام لعشر سنوات.. فكان معلموه ثلاثة: شيخ قرية (كفر أبو نجم).. الذي علمه (فك الحرف)، و(عصاميته) التي علمته القراءة والكتابة، ورواية (الأم) للكاتب الروسي العظيم مكسيم جوركي.. التي أنضجت وعيه الشاب على (حقائق العالم والأسباب الموضوعية لقسوته ومرارته)، أما هذه النيران التي اندلعت فيما بعد في قصائده وأشعاره بعد أن كان يكتب أغاني الحب والهجر والهيام ومشكلاته الإذاعية التي لم تنته حتى الآن - كما قال في إحدى مقابلاته -.. فقد كانت نتيجة طبيعية لما رآه وسمعه وعاشه طوال سنوات تطوافه المهين بين أدنى الوظائف وأقلها أهمية في سلم الحياة: من (راعي بهايم) إلى (بائع متجول) إلى (صبي ترزي) إلى (عامل إنشاءات) إلى (عامل سكة حديد) إلى (موزع بريد) في وزارة الشؤون.. التي أمنت له على تنوعها - كرهاً - السكن فوق أسطح عمارات أحياء القاهرة الشعبية، ثم أصبح سكنها - بعد أن تغيرت به الحال - رغبة وإرادة: فأهلها هم أهله.. وناسها هم ناسه.. وبرحات مقاهيها هي (صالونه) المفضل الذي يستقبل فيه كبار زواره حتى بعد أن أصبح شاعر المقاومة الأول، الذي تسعى إليه الصحافة وتخطب وده ولقاءه القنوات الفضائية، ليقع في الإعجاب به وبشعره الناري.. أحد أصحاب تلك القنوات (نجيب سايروس) فيقيم له حفل عيد ميلاد عند بلوغه السبعين.. لم تشهد القاهرة مثله منذ سنين، فكان أن حضره بشعره (المنكوش) وشاربه (المبعثر) وبذات جلبابه الواسع.. الذي كان يبدو لي - من خلال متابعتي له ولأحاديثه ولقاءاته على الفضائيات - وكأنه الوحيد في سحارة ملابسه..!!
لكن.. ذلك التطواف الوظيفي المهين وإن لم يشعل النار في كلماته.. إلا أنه أطلعه على واقع حياة الطبقات الدنيا في مصر ومآسيها مع فقرها وقلتها وعوزها، ليأتي تطوافه الآخر بين سجون مصر - ظلماً وبهتاناً - في العهدين: (الملكي) باستعلائه وإقطاعه.. و(الجمهوري) في عزه ونكسته.. فيشعل النار في حطب كلماته، ليولد فيه الشاعر الشعبي المقاوم لـ (الاستعمار) فالمقاوم لـ (الديكتاتورية الحاكمة).. فالمقاوم لـ (غيبة الوعي الشعبي) بين الناس، التي أخذ يتردد بأسبابها منفردة ومجتمعة على معظم سجون مصر، ليدخل - وهو في آخر سنوات سجنه الثاني الذي امتد من العهد الملكي إلى العهد الجمهوري - مسابقة (الكتاب الأول) التي أخذ ينظمها (المجلس الأعلى لرعاية الآداب والفنون) أيام (عبد الناصر).. بديوانه (صور من الحياة والسجن)، الذي كتبت مقدمته الدكتورة سهير القلماوي.. فيفوز بالجائزة الأولى ويشتهر بين الناس وهو لا يزال في سجنه.. ليتم تعيينه بعد خروجه بـ (منظمة تضامن الشعوب الآسيوية الإفريقية)، فيتعرف على الموسيقي العبقري الكفيف (الشيخ إمام) ويسكنان معاً في بيت واحد بـ(حي بولاق الدكرور) في قلب أحياء الجيزة الشعبية.. ليشكلان - معاً - جبهة مقاومة شعرية موسيقية تتصدى لقضايا مصر وما يجري فيها، فكان من سوء حظهما.. أن يبدآ بالتصدي لنكسة يونيه 67م بأغنية (الحمد لله خبطنا/ تحت بطاطنا/ يا محلا رجعة ظباطنا من خط النار)!! فغضب عبد الناصر - اللذان كانا يحبانه كل الحب - وأمر بسجنهما لسخريتهما من الجيش المصري وضباطه، فلم يخرجا إلا على يد (السادات) فيما سمي ثورة الخامس عشر من مايو 71.. أو (مايو.. يا حبيبي) كما سماها عرابا (الساداتية) آنذاك: (موسى صبري) رئيس تحرير صحيفة الأخبار، والدكتور رشاد رشدي رئيس أكاديمية الفنون المسرحية.. بينما كان أصدقاء الأستاذ أحمد فؤاد نجم غاضبين لـ (فعلته)، وأحسب أن ذلك هو ما جعلهم يطلقون عليه فيما بعد صفة (الفاغومي) أو (الفاجومي)، وهي كلمة لا وجود لها في قواميس اللغة العربية.. ولكنها تعبر عن براعة العامية المصرية في نحت كلمات عامية جديدة ككلمة (الفاغومي) هذه.. التي تعني الشخص غير المكترث وغير المبال بأي شيء في سبيل حرية كلمته ووصولها إلى الناس!! أو (المِسْتَبْيَع) كما وصفها أحد الأصدقاء المصريين الأعزاء.
لكن (الفاغومي).. أدرك بعد سنوات قليلة من أيام السادات (السداح.. مداح) كما وصفها الأستاذ أحمد بهاء الدين.. خطأه، فذهب للصلاة في ضريح عبد الناصر.. وعاد ليكتب قصيدته عنه:
(واحنا نبينا كده
من ضلعنا نابت
لا من سماهم وقع
ولا من مرا شابت
ولا انخسف له القمر
ولا النجوم غابت
أبوه صعيدي وفهم قام طلَّعه ظابط
ظبط عليّ قدنا وع المزاج ضابط
فاجومي من جنسنا
مالوش مرا عابت
فلاح قليل الحيا
إذا الكلاب سابت
ولا يطاطيش للعدا
مهما السهام صابت
عمل حاجات معجزة وحاجات كثير خابت)؟!
* * *
ومع (مبارك) وعقود سنوات حكمه الطويلة، التي امتدت لأكثر من ثلاثين عاماً.. وتراوحت بين الاتزان والترخص والاستخفاف بمصر وشعبها وابتزازه بـ (التوريث)، فقد كانت قصائد (الفاجومي) العامية.. هي صوت مصر المعارض: الدائم والجريء الذي لا يتوقف بثه من (حارة خوش) على مدار الليالي والأيام.. فمن قصيدة (عليَّا الحرنكش) التي يقول فيها:
(عليَّا الحرنكش يا ريس مبارك
في عصر مزركش ملون بنارك
لابايعك وابايع حكومة حمارك
ملعون أبو اللي يقدر يقاطع قرارك
نهاره مقندل وليله مبارك
فهَمْبِك وهجِّص وطلِّع في ديننا
أكيد هو طالع يشاهد جمالك
جمالك مبارك سوزانك سوزاننا
يا محلا حصارك لمصر اللي جالنا)
.. إلى قصيدة (أنا مصري ابن مصري) التي شكا فيها من أحوال مصر ومرارة عيشها دون التخلي عنها وعن حبها وهو يقول:
(برغم المهانة برغم القرف
برغم الزبالة اللي مليه الشوارع
برغم الفساد اللي بيه أعترف
برغم المجاعة اللي داخلين عليها
وفينا اللي عايش حياته في ترف
برغم البطالة في أوضة وصالة
برغم أن آخر جنيه اتصرف
برغم طابور الصباح السخيف
وكل منايا يادوب كام رغيف
برغم أسايا لمنظر عشايا
واقول مش مهم يا واد نام خفيف
برغم إني شايف بلاوي وساكت
وعايش مطنِّش كأني كفيف
برغم وزارة رئيسها حرامي
وشوفوا البجاحة يقولوا “نظيف”
برغم ده كله.. يا مصر بحبك)
.. إلى قصيدته القنبلة (حتطلع حتنزل حجيبلك جمال).. التي أطاحت به وبوريثه في الخامس والعشرين من يناير.. التي ختمها على لسان مبارك وهو يقول محذراً أبناء مصر:
(لكن لو تفكر تخطط تقرر
تشغلِّي مخك وتفتح جدال
وتبدأ تشاكل وتعمل مشاكل
وتنكش مسائل وتسأل سؤال
حبهدل جنابك واذل اللي جابك
وحيكون عذابك فوق الاحتمال)
لكن..
(حتقبل ححبك حترفض حلبك
حتطلع حتنزل حجيبلك جمال)
.. فكان ما كان..!!
لكن هذا (الفاجومي) الجبار. الحاد والسليط، كان قادراً على الدوام على تطويع قلمه لكتابة أجمل النصوص العامية وأكثرها عذوبة ورقة وإنسانية، إذ لا أظن أن أحداً من قرائه.. نسي ختام قفلته الشعرية الغنائية الرائعة لمسلسل (زيزينيا) التليفزيوني وهو يقول:
(وعمار يا إسكندرية يا جميلة يا ماريا
وعد ومكتوب عليا ومسطر ع الجبين
لاشرب م الحب حبة وانزل بحر المحبة
واسكن حضن الأحبة والناس الطيبين
حكاياتك يا زيزينيا حواديت وناس ودنيا
في حواري إسكندرية وليالي المنشدين
واما التاريخ يواكب ويزاحم بالمناكب
يتعبى في المراكب وغناوي الصيادين)
.. إلى أن يقول:
(هيلا هيلا وهيلا بيلا شيال والعمر شيله
وهموم الدنيا ليلة فيها القمر حزين
ويا موج بحر الليالي عديتك وانت عالي
ودفعت المهر غالي بالأيام والسنين)
* * *
فإذا كان عهد (مبارك) البطيء والطويل قد عاند (الفاجومي)، وترصده وتربص به وحرمه حتى من الاعتراف بـ (مكانته).. فقد أنصفته (المجموعة العربية) في صندوق (مكافحة الفقر) التابع للأمم المتحدة بتعيينه (سفيراً للفقراء).. في عام 2007م، لتعلن (مؤسسة كلاوس) الثقافية الهولندية.. عن منحه جائزتها لعام 2013م في شهر سبتمبر الماضي (تقديراً لمساهماته الشعرية، وأشعاره باللهجة العامية المصرية التي ألهمت 3 أجيال من المصريين والعرب، وتميزت بحس نقدي ساخر.. بتأكيدها على الحرية والعدالة الاجتماعية)، التي كان من المقرر أن يتسلمها في العاشر من ديسمبر.. ليفاجئه قدر وفاته في الثالث منه، لتطلب المؤسسة من ثاني بناته (نوارة نجم) أن تعد كلمة لتلقيها يوم تسلُّمها لـ (الجائزة) نيابة عنه، فكتبت كلمة رائعة في سخريتها بعنوان (أبويا أنا يموت)!! وهي تتوقع صعوده لمنزلها بين ساعة وأخرى.. لزيارتها كالعادة.. وغناؤه وشتائمه الساخرة المازحة تسبقانه على سلالم العمارة.
ولكنه مات..
مات وإن بدت الحياة بدون صوته.. عندها وعند غيرها من محبيه لا طعم لها في مصر..!
فوداعاً.. يا أغنى (فقراء العالم)..
وداعاً.. زعيم العامية المصرية الملتهب والفريد.