صار أدعياء الجهاد يغزون المستشفيات ويقتلون أطباءها وممرضاتها. هكذا أذاعت الأخبار بعدما اقتحمت سيارة مفخخة المستشفى المجاور لوزارة الدفاع في صنعاء، وكان يقودها انتحاريون، يقال إن بعضهم سعوديون، وهذا ليس له أهمية، وكذلك ليس مهما إن كانت قاعدة اليمن تبنت العملية، كما أذيع، أو غيرها.
ولا يهم أيضاً إن كان الانتحاريون ومن معهم يقصدون مبنى وزارة الدفاع نفسه، فلما رأوه محصناً مالوا إلى أقرب المباني وأسهلها اختراقاً.. المهم في ذلك كله هو الحدث الذي وقع، وهو أنهم اقتحموا المستشفى الذي يدركون أنه لا يؤوى جنوداً مدججين بالسلاح، بل أطباء وممرضات، وفوق ذلك مرضى لا حول لهم ولا قوة.
إنه لبهتان عظيم أن يعد هذا جهاداً، إلا إن كان من مجاهد دجال.. فالجهاد الصحيح الذي سماه الرسول عليه الصلاة والسلام سنام الإسلام -مع أنه ليس من أركان الإسلام الخمسة كالحج مثلاً- هو ذلك الجهاد الذي يخرج إليه المسلم طالباً النصر أو الشهادة ليحارب في سبيل الله عدوا حاشدا قوته وعدته ليغلب الإسلام، فهو يقاتل عدوه وجهاً لوجه وسلاحاً بسلاح بشجاعة وكرامة؛ فهكذا كان حال المجاهدين الأول، الذين لم يكونوا انتحاريين يقتلون أنفسهم بالقنابل والمتفجرات التي يفخخونها -ومتى كان المنتحر شجاعاً؟ ولم يكونوا كذلك ليؤذوا شيخاً أو امرأة أو طفلاً أو كاهنا في صومعته أو مسالماً- فذلك ما علمهم به الإسلام.. أين هذا ممن يزعم أنه مجاهد في سبيل الله وهو يقتل الرهبان أو غيرهم من المستأمنين، أو يفجر الأسواق والمباني بمن فيها من شيوخ وأطفال ونساء مسلمين وغير مسلمين، أو يغير على المستشفيات ليقتل من فيها من الأطباء والممرضات والمرضى الذين يرجون من الله الشفاء على يديهم.. هذا في الحقيقة جهاد ضد الإسلام ولغم يفجره لأن:
- الذين يفعلونه يستهزئون بدين الإسلام ويعاندون حكم الله الذي ورد في الآية الكريمة: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}.
- هذه الأفعال المشينة تولد الكراهية للإسلام بين الأمم والشعوب، كما هو مشاهد في بلاد شتى، وتثير العداوة بين الطوائف في المجتمع الواحد، فتدفع إلى البعد عن الدين الجامع والتمسك بالطائفية والمذهبيه والقبلية أيضاً. ولننظر كيف استخدم نظام بشار الأسد وروسيا وإيران إرهاب الفرق التابعة للقاعدة أو السائرة على منوالها في إذكاء الطائفية ومشاعر الخوف لدى طوائف سوريا، بل ولدى الجهات الغربية الداعمة للثوار، وفي تبرير الاستعانة بمجندي حزب الله والحرس الثوري.
- الجهاديون التكفيريون يبررون ولوغهم في دماء الأبرياء وتقتيلهم بدون تمييز بتكفير الناس وأن من يحيد عن تعاليمهم في السلوك والعباده إما كافر أو مرتد؛ فهم بذلك يخرجون عامة المجتمع من الملة، ويختزلون الإسلام في مذهبهم وفتاواهم، ويجبرون الناس على اتباع طريق الغلو في الدين، ولا يردعهم شيء عن اعتقال وتعذيب أطفال في سن الثامنة كما أكدت مؤخراً منظمات دولية عن مثل هذه الحالات في سوريا.. الغلو في الدين ينهى عنه الإسلام نفسه، وهو أصلاً ينافي طبيعة المجتمعات البشريه، لأن التعايش بين الناس في المجتمع الواحد مطلب أساسي لانتظام أمور حياتهم ومعيشتهم، ولكنه لا يحصل بغير الاعتدال والتسامح، وعدوه الأكبر هو الغلو في الدين والتطرف في الانتماء الطائفي والمذهبي.
- المتطرفون أدعياء الجهاد ودعاة التكفير -إذ يفشلون في هزيمة الدولة التي يريدون هزيمتها- يلجؤون إلى الاعتداء على مواطني تلك الدولة في بيوتهم أو في الأسواق أو في أماكن العمل أو في أماكن العبادة، إما لإثارة الرعب وإزعاج السلطة وإظهارها بمظهر العاجز، أو لأخذ هؤلاء المواطنين بجريرة حكومتهم التي يناصبونها العداء.. في هذا كله حرب على الدين الذي يدّعون الجهاد باسمه؛ إنه إفلاس ديني.
- إفلاسهم الديني يصاحبه إفلاس أخلاقي.. أمثلة ذلك:
* اعتقال وتعذيب الأطفال.
* اقتحام البيوت وذبح الأطفال.
* إيهام الفتيات في تونس مثلاً بما يسمى نكاح الجهاد وإخضاعهن باسم الجهاد لشهوات رجال هذا الجهاد.
* قتل الأطباء والممرضات كما حدث في صنعاء، وفى الصومال مؤخراً.
لقد أفلسوا دينياً وأخلاقياً لأنهم خالفوا نصوص الشريعة التي زعموا أنهم يحتكمون إليها واتبعوا أوامر وفتاوى رؤسائهم ومشائخهم الذين فتنوهم وخلبوا عقولهم بما يؤولونه لهم من النصوص وفق هواهم وبما يعدونهم من نيل الشهادة والحور العين في الجنة.. ومن أجل هذا الوعد سيطر على عقولهم أن القتل هو أسرع الطرق وأرخص التذاكر للعبور إلى الجنة. كل ذلك ينافي قدسية الجهاد الذي هو سنام الإسلام، كما نعرفه من تاريخ الحروب التي ترد جيوش أعداء الإسلام على أعقابهم وتهزمهم، على نحو ما كان في صدر الإسلام، وفي محاربة المحتلين الصليبيين، وفي الثورة الجزائرية ضد المستعمر الفرنسي، وجهاد الأفغان ضد المحتل الروسي. ولم يحرم الشعب الأفغاني من قطف ثمرة هذا الجهاد إلا أنانية أمراء الحرب الطامعين في السلطه، ثم حركة طالبان المتطرفة التي ورثتهم وحولت المجتمع الأفغاني المسلم إلى مجتمع متخلف بسبب فكر قادتها الضيق المتزمت، والتي جرت جحافل جيوش الناتو إلى أفغانستان بسبب احتضانها لإرهاب القاعدة.
وعلى الرغم من أن التاريخ الإسلامي شهد مراحل طويلة من ضعف الحكام وفساد بعضهم وغلبة الغزاة الأجانب فإن العقيدة الإسلامية بقيت قوية وصامدة في أوطان المسلمين وقلوبهم؛ انتصرت العقيدة بجهاد علماء أفذاذ مثل ابن تيمية ومؤسسات دينية مثل الأزهر الشريف؛ فعلوا ذلك دونما إرهاب أو تكفير للناس أو قتل للآمنين.. لذلك يجب أن لا نبحث عن السبب وراء انحطاط المسلمين في العصور الوسطى وما بعدها في ضعف الدين، وإنما في صراع المذاهب والطوائف والأجناس على الحكم وصرف الاهتمام عن العلم والتعليم والعمران الحضاري، مما أدى إلى انكفاء المجتمع الإسلامي على ذاته، فتقدمت الأمم وتخلف العالم الإسلامي وأصابته علة (القابلية للاستعمار)، كما يسميها المفكر الإسلامي مالك بن نبي.. ولذلك نحن نعاني في عصرنا الحاضر هزيمة حضارية لا ننتصر عليها بالعنف الأهوج الذي لايولد إلا عنفاً أكبر تتسع دائرته وتمتص قدرات وطاقات المجتمع الإسلامي وتشيع فيه الخوف واليأس.
لقد استطاعت شعوب مهزومة أن تهزم الذين غلبوها بدون حرب أو عداوة مثل اليابان التي تعلمت بعد الهزيمة من أعدائها وفتحت للعلم والبحث والخبرات أبوابها وعقولها، حتى نهضت ونافست أمريكا في أسواق العالم وفي عقر دارها. في مقابل ذلك ماذا حقق الفتيان الجهاديون من القاعدة وغيرها المغرر بهم لشعوبهم من جراء أفعالهم الإرهابيه غير فقدان الأمن والاستقرار، والاحتفاظ بالقابلية للاستعمار؟.