من المسلَّمات اليوم لدى الممارسين في أي مجال ولدى الأكاديميين في أي تخصص علمي النظرة إلى الإنسان على أنه رأس المال الحقيقي في الخطط الاستراتيجية التنموية للدول؛ وبالتالي الاستثمار فيه من أنجح أنواع الاستثمارات؛ لأنه ينمو ويتطور معنوياً ومادياً على قدر ما تُوفَّر له من بيئة دافعة للعطاء الأمثل؛ الأمر الذي يجعله رافداً مهماً،
وعلى يديه تستمر التنمية البشرية للمجتمع.
وتتبلور هذه المسلَّمة في مجال التربية؛ إذ تُخصِّص حكومات الدول موازنات ضخمة له؛ لتوفير الإمكانات البشرية والمادية والفنية المحفزة على نجاح العملية التعليمية؛ وبالتالي تحقق أهدافها في كل مرحلة دراسية. ويمثل المعلِّم العمود الفقري لهذه العملية؛ فلا تتم على نحو سليم إلا به.
وللمعلِّم حاجات تعليمية وتدريبية واجتماعية، تؤثر في مستوى أدائه التدريسي، وتفاعله مع زملائه في المدرسة، ومع طلابه، بل مع أولياء أمور طلابه. ولا عجب؛ فهو مسؤول عن وظيفة من أهم الوظائف الإنسانية؛ فإذا شعر بنقص في متطلبات وظيفته فإن هذه الحال تتسبب في صدور ردود أفعال سالبه. وأعتقد أن الذي يتضرر هنا ليس الطالب وحده بل نوع التعليم نفسه الذي ينتمي إليه المعلم؛ إذ سيبحث عن نوع آخر للتعليم، يجد نفسه فيه.
والتعليم العام هو نوع من أنواع التعليم، ويتألف من مراحل فرعية (الابتدائية، والمتوسطة، والثانوية)، وله أهمية كبرى في سلم التعليم؛ إذ يقع في قاعدة هرم هذا السلم، وله طبيعة تميزه عن أنواع التعليم الأخرى في فلسفته التربوية، ونوعية أهدافه، ومناهجه الدراسية، وتجهيزاته الفنية، وانتشار مؤسساته، وإعداد معلميه، وتدريبهم، وسماتهم، وسمات طلابهم، وتشريعاته التربوية.
فهو المسؤول عن صناعة الإنسان في مراحل عمره الأولى، وفي ضوئها يستطيع الإنسان مواصلة تعليمه الجامعي وما بعده، أو الانتقال إلى سوق العمل؛ الأمر الذي يتطلب وجود كفاءات مؤهلة ومدربة؛ لتتولى صناعة أجيال تكون سنداً لأنفسها وأسرها ومجتمعاتها وأمتها.
وعلى الرغم من هذه المكانة التنظيمية والتربوية للتعليم العام إلا أنه يلاحَظ أن مناخه الوظيفي يدفع عدداً من شاغلي وظائفه التعليمية والحاصلين على درجات علمية عالية إلى تركه، مع أن مستوياتهم الوظيفية متقدمة، متجهين إلى التعليم العالي، وقد ضحَّى عدد منهم بجزء كبير من مرتباتهم إلى عهد قريب رغبة منهم في الانتماء إلى أوساط أكاديمية، تتمتع بمكانة اجتماعية تليق بإمكاناتهم وتطلعاتهم؛ ليكونوا قادرين على تحقيق نجاحات متتالية في وظائف التعليم العالي.
لقد أكدت كتابات عديدة وجود مشكلات في مراحل التعليم العام الفرعية، مختلفة المصادر، هي المسؤولة عن تسرب أعداد من المعلمين والمشرفين التربويين ومديري المدارس والمرشدين الطلابيين، وهؤلاء هم أركان الإدارة المدرسية. وبلا شك، إن هذا هدر تربوي للكفاءات الوطنية المؤهلة علمياً ومسلكياً، من شأنه أن يسهم في عرقلة تحقق الفعالية المرغوب فيها؛ وبالتالي صعوبة تحقق أهداف التعليم العام.
والمكانة الاجتماعية للمعلم واحدة من المشكلات الرئيسة في مراحل التعليم العام المسؤولة عن هجرة هذه الكفاءات الخلاقة، فمهنته من أكثر المهن الإنسانية أهمية نظراً إلى أنها تبني الإنسان دينياً وعقلياً وخلقياً ونفسياً واجتماعياً وإرادياً وجمالياً، وهي في الوقت ذاته من أكثر المهن إنهاكاً بسبب النصاب التدريسي الأسبوعي الذي يفوق تحمله، كما أنها من أكثر المهن إخفاقاً بسبب تهميش المجتمع له، وهذا - بلا شك - سينعكس على أدائه التدريسي، وتفاعله مع زملائه في مدرسته، ومع طلابه، بل مع أولياء أمور طلابه. وأنا هنا لا ألومه، بل أدعو الله أن يعينه على رسالته الشاقة.
وقد قاست كتابات عربية في فترات متباعدة المكانة الاجتماعية للمعلم، واستخدمت مقاييس مؤلفة من (100) درجة، وتوصلت إلى نتائج تستحق أن تعالِج وزارات التربية والتعليم في أي مجتمع هذه الحال للمعلم:
* في السبعينيات أظهرت المقاييس أن الترتيب الأول في المكانة الاجتماعية لصالح أستاذ الجامعة والوزير ومستشار الجمهورية ووكيل الوزارة، وأن الترتيب الثاني لصالح المدرس الجامعي، وأن الترتيب الثالث لصالح ناظر المدرسة والمدرس الثانوي والموجه الابتدائي، وأن الترتيب الرابع لصالح معلم الابتدائي وناظر المدرسة الابتدائية.
* وفي الثمانينيات أظهرت المقاييس تساوي ناظر الابتدائي ومعلم الإعدادي مع ضابط الجيش والشرطة والمخرج المسرحي والطبيب البيطري والفنان التشكيلي في المكانة الاجتماعية، وتساوى معلم الابتدائي مع التاجر ومصور التلفزيون والممثل المسرحي.
* وفي التسعينيات أظهرت المقاييس أن أستاذ الجامعة حقق 94 درجة، ويليه المدرس الجامعي 87 درجة، وناظر الثانوي 74 درجة، والمشرف التربوي الابتدائي 66 درجة، ومعلم الثانوي 65 درجة، وناظر الابتدائي 60 درجة، ومعلم الإعدادي 59 درجة، ومعلم الابتدائي 53 درجة.
ومن خبرة متواضعة في التدريس الجامعي في المجال التربوي ألحظ تدني الروح المعنوية للطلاب المعلمين، ويظهر هذا في صور كثيرة، منها: تكرار حالات التأخر والغياب عن المحاضرات، تدني الاهتمام بتدوين المادة العلمية التي تعرض أثناء اللقاءات الدورية، الانشغال بأمور جانبية، الحمل المتكرر للمواد الدراسية وضَعف الرغبة في التخرج من الكلية في الوقت القانوني.
ويتضمن الأدب التربوي العربي قصصاً مؤثرة لحاله؛ فقد أشار نجيب محفوظ في روايته (السكرية) لأب اسمه أحمد بن عبد الجواد، وهو ينهر ولده كمال الذي يود الالتحاق بمدرسة المعلمين العليا بدلاً من مدرسة الحقوق قائلاً «ولكن الناس لا تقيم التماثيل لمعلم، أرني تمثالاً أقيم في بلادنا لمعلم»، بل ذهب البعض إلى تأليف الأعمال الفنية التي تقلل من مكانة المعلم كمسرحية مدرسة المشاغبين التي كانت النواة الأولى للتهكم على المعلم.
ويتضمن الأدب التربوي غير العربي قصصاً مشابهة؛ فقد أشار تقرير مجموعة هولمز الأمريكية (Holmes Group) إلى تدني رغبة الطلاب في دراسة التربية؛ حتى لا يصبحوا معلمين. وتخلى بول ماكميلان (Paul MacMillan) المعلم في مدرسة بريطانية، الذي كان يتقاضى راتباً سنوياً قدره (33) ألف جنيه إسترليني، عن مهنة التدريس، واشتغل سائق تاكسي بدخل سنوي مقداره (10000) إسترليني.
أمنيات أهديها لمقام وزارة التربية في بلادي: جهودك ملاحظة ومشكورة، لكن المأمول منها أكثر. ومن هذه الأمنيات: الأولى: أن تبحث عن الحاجات الفعلية التعليمية والمهنية والتدريبية والاجتماعية للمعلم، وذلك وفق مسوح استطلاعية مقننة، وتعمل على تلبيتها. والثانية: أن تجعل له حصانة كما للقضاة والضباط؛ لئلا يتطاول عليه من لا يعرف قيمته. والثالثة: أن تمنحه دعماً لوجستياً، وذلك بتقديمه للمجتمع على أنه خبير تربوي وقائد تربوي، من خلال برامج إعلامية صحفية تلفازية وإذاعية. والرابعة: أن تحاسب بحزم كل من يتندر عليه في البرامج الإعلامية. والخامسة: أن تخصص أوسمة فضية وذهبية وماسية للمعلمين المتميزين، وذلك وفق معايير تربوية تحت مسمى المعلم المتميز، أو معلم العام الدراسي، يستلمه المعلم في حفل كبير في نهاية العام على شرف سمو وزير التربية والتعليم أو شرف سمو أمير المنطقة، مع مبلغ مالي معين. والسادسة: أن تجعل لها شعاراً، هو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم «ليس من أمتي من لم يُجل كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه» (رواه أحمد والطبراني والحاكم).