يبدو لي المشهد الإعلامي العربي كحراج للمزايدات على بضاعة الرأي، وأكبر سوق حراج عندنا في السعودية هو «تويتر»، وأفضل محَرِّج يستقطب الباعة والمشترين ويُمتع المارة هو من يرفع صوته أكثر، وربما يستهبل ليلفت النظر بعبارات هائجة ويقذع بشتم الآخرين وبضائعهم..
يقال -منذ القدم- إن السبب الرئيس للصراعات الفكرية ليست خلافات الرأي قدر ما هي سلاطة لسان صاحب الرأي. هذا ما يدركه الناجح من محَرِّجي الرأي محولاً حراجه إلى بضاعة احتكارية، يهاجم المنافسين بأكثر التهم رواجاً في السوق.. يهاجم فلاناً بسبب مساندته للبضاعة الأجنبية (التغريب)، ويهاجم فلاناً بسبب البضاعة المنتهية الصلاحية (التشدد).. بحسب التوجه الذوقي لجمهور الحراج. والمفارقة عند هؤلاء المحَرِّجين «الذويقة» أنهم يبدؤون كلامهم بالتأكيد على الوحدة الوطنية والبعد عن الفئوية والطائفية.. ويؤكدون أنهم ليسوا متعصبين ولا طائفيين، إنما التعصب من الطرف الآخر.. ثم يدخلون في مجادلة معه تأجج حالة الاحتقان الطائفي..
صحيح أن هذه المرحلة أنتجت بشكل طبيعي، وربما صحِّي، نقاشات محتدمة حول القضايا الكبرى، مفرزة بالضرورة خلافات فكرية حادة، لكن تحول المشهد إلى مزايدات نتج عنه حالة غير صحية، من اتهامات انفعالية بالتخوين والتكفير وشتائم متبادلة وإقصائية بين أطراف النقاش. صارت اللعبة معروفة: يطلق كاتب أو داعية مغمور فقاعة إعلامية، وقد يكون مشهوراً لكنه لا يستطيع الاستمرار إلا عبر الفقاعات الصاخبة.. ثم من غد ينهمر سيل من مقالات الرأي وحلقات الفضائيات تتناول ما قاله، وتضعه في دائرة الضوء!
الظاهرة عالمية، لكنها أقل كماً وأخف نوعاً مما هي في عالمنا العربي. على سبيل المثال، في أمريكا، كان جوان وليام ناقداً مغموراً في إذاعة عمومية محترمة، لكنه فجأة صار اسماً لامعاً، بعد محاورة قال فيها: «أنا لست متعصباً، ولكن عندما أريد الصعود للطائرة لا بد أن أصارحك فعندما أرى أناساً في زي مسلمين، وأعتقد أنهم يُعَرِّفون أنفسهم أولاً وقبل كل شيء كمسلمين، فإنه ينتابني القلق، وينتابي الخوف». وخلال يومين تم طرد جوان من الإذاعة، لأن نظامها (مثل كل المؤسسات الإعلامية المحترمة) يمنع صحفييها من التعبير عن الرأي بطريقة عنصرية.. ورغم ذلك، فإن وليام وقَّع عقداً بمليوني دولار لمدة ثلاث سنوات مع محطة فوكس!
هناك مشكلة أخرى في إعلامنا، وهي سيطرة مقالة الرأي.. يقول أبقراط (أبو الطب): «العلم هو أبو المعرفة، ولكن الرأي يولد الجهل!». ليست القصد أن مقالة الرأي مشكلة بل هي ضرورية، إنما المشكلة أنها النمط المسيطر على الكتابات الصحفية العربية، مقابل ندرة المقال التحليلي (الوصفي، النقدي..) المستند على دراسات علمية. طبعاً، المقالة الصحفية ليست ورقة علمية لكنها أيضاً ليست عملاً أدبياً بل تجمع بين الموضوعي والأدبي، أو تميل لأحدهما. في المقالة ذات الطابع الأدبي يسيطر الحس الانطباعي والخبرة الذاتية والخيال الشخصي والميول الفكرية، بينما في ذات الطابع الموضوعي تسيطر لغة العلم والأرقام.. الأولى جميلة لكنها خيالية والثانية جافة لكنها واقعية..
سيطرة الرأي على التحليل هو الخلل الذي يعيقنا عن فحص آرائنا، ويولد الجهل الذي أشار له أبقراط. الرأي يعتمد على عقل الكاتب، لكن التحليل الموضوعي يعتمد على الوقائع المستندة على الدراسات الاستقرائية المجردة من الخيالات. مثلاً، قد يرى الكاتب أن ثورات الربيع العربي هي للمطالبة بالحرية، فيما يرى ثان أنها للمطالبة بتحسين أحوال المعيشة، بينما يرى ثالث أنها لشيء آخر، وهلمّ جراً.. إنما التحليل الموضوعي المستند على الاستطلاعات سيخلص لاستنتاج واقعي لهذا المطلب أو ذاك..
بطبيعة الحال حتى التحليل الموضوعي المستند على الدراسات العلمية يمكن أن يكون مضللاً عندما يتم الانتقاء من الوقائع عما يؤيد الرأي المسبق للمحلل، لأنه سيجد ما يكفيه ويتغاضى عن النتائج التي لا تؤيد رأيه. إنها موضوعية زائفة. هنا نعتمد كثيراً على الأمانة العلمية وقدرة القارئ والناقد في كشف الانحياز المسبق. خذ مثلاً: كاريكاتيراً في صحيفة أمريكية يظهر باحثاً علمياً يقول لرجل أعمال: «حسناً، أتممنا دراستنا العلمية ولدينا الآن كل الإحصاءات المطلوبة، فقل لي هل تريد أن نمدح أم نذم هذا المنتج؟». تلك الانتقائية مدركة في الأبحاث العلمية.. كلاهما - مع أو ضد- يمكن التوصية بهما بحسب نتائج الدراسة العلمية ولغة الأرقام التي يقال «أنها لا تكذب»، لكن الاستنتاج الأمين يبحث في الإحصاءات عن السلبي والإيجابي وليس عن أحدهما دون الآخر..
القاعدة معروفة في تقاليد الإعلام الموضوعي: «يجب على الصحفي ألا يتخذ موقفاً حزبياً أو يعبر عن رأي شخصي أو متحيز..». لكن الوقت تغير وصار من يخترق هذه القاعدة ترتفع أسهمه، وصارت المؤسسات الإعلامية المنحازة تتقدم في المنافسة!! يقول الكاتب الأمريكي نيل ماكدونالد: «هنا في أمريكا، ورغم هذه القاعدة، ألقت فوكس نيوز ببساطة مادة الكتاب القديم (في تعليمات الحيادية)، وهي الآن تهيمن على تصنيف المواقع الإعلامية ومثلها محطة MSNBC، آخذة في الارتفاع، أما سي إن إن الرزينة على الطريقة القديمة فهي في هبوط. عموماً، لا تزال أقوى الصحف الأمريكية ملتزمة بقاعدة عدم الانحياز وعدم الخلط بين التحليل والرأي، بل تسعى جاهدة لتبيين ذلك الفرق للمتلقي عبر أساليب توضح للقراء أن ذلك الجزء أخبار أو تحليل أو رأي، ليس فقط بوضع عنوان أعلى الصفحة او أعلى المقال بل بتغيير أسلوب الطباعة وتفاوت الهوامش.. من الواضح أن المؤسسات الرزينة تعتمد على المدى الطويل وليس القصير..
في المقال التحليلي الموضوعي يتم وضع الأطراف كافة تحت الفحص الهادئ دون تبني رأي مسبق، رغم استحالة التجرد من الميول المسبقة. الحاصل حالياً في عالمنا العربي أن مثل كاتب هذا النوع سيقع بين نارين: الأولى هي عجلة الإنترنت المندفعة بلا هوادة، لا وقت للتحليل بل المطلوب بضع عبارات سريعة فاقعة منحازة، وكفى.. الناس مستعجلة! الثانية، وهي الأقسى، في حالة الاستقطاب الحادة.. الويل للكاتب الذي يحلل قضية ما بهدوء مجرد من الميول الآنية! في تقديري، تلك مرحلة لن تطول، (يمكن ملاحظة خفوت الفيسبوك وانخفاض نمو تويتر..)، فالناس سيقل اهتمامها بلعبة كانت لذيذة الإثارة في بداياتها، لكنها تكررت لتصبح عادية، فضلاً عن أنها لا تساعد على فهم ما يحدث..