كتب الأستاذ بندر عبدالعزيز الضبعان مقالاً في جريدة الاقتصادية عنوانه «أما آن الأوان لإعادة هيكلة وزارة المالية؟» وأورَد أمثلة عن تشعّب، وتنوع أعمال تلك الوزارة، وانتهي باقتراح إعادة هيكلة الوزارة، وذلك بفصل بعض المصالح، والإدارات المرتبطة بها، وإلحاقها بجهات أخرى قد تكون طبيعتها أقرب. وأنا هنا لن أدافع عن وزارة المالية، فهي أقدر على ذلك، ولكنني سأطرح وجهة نظر مغايرة، تقول إن إعادة هيكلة وزارة المالية وحدها، لن تحقق الكثير لسببين، هما: إن الحاجة لإعادة الهيكلة لم تعد تقتصر على جهاز واحد، أو أكثر، حتى ولو كان ذلك الجهاز مفصلياً لعمل الحكومة، والسبب الآخر هو أن سلخ بعض المصالح والإدارات عن وزارة المالية لن يحقق الهدف، إذا لم تصحح العلاقة بين الميزانية والخطة، وإليكم شرح لهاتين النقطتين:-
- من نافلة القول أن كل مجتمع يراجع أوضاعه من وقت لآخر، ويبحث عن سبل لأداء الأعمال بشكل أفضل، وهو ما نسميه اليوم «إعادة الهندسة، أو الهيكلة»، وفي القطاع الصناعي نسميه «خفض كلفة وحدة الإنتاج»، ولأن الجهاز الحكومي السعودي مؤثر في حياة المواطنين بشكل أكبر من أي مجتمع آخر، وذلك بسبب الاعتماد الكبير على مورد النفط، فإن مراجعة أسلوب العمل الحكومي تصبح ضرورة. خصوصاً وأنها أهملت منذ المحاولة الأولى، التي تمت قبل خمسين سنة، وانتهى الأمر بعملية بديلة، سميت «الإصلاح الإداري»، وقد اقتصرت تلك العملية على مراجعة، وإقرار توسع القطاع الحكومي في كل الاتجاهات، وحتى عندما أنشئت أجهزة جديدة، كان يفترض أن تكون أكثر كفاءة، وأن تحل محل أخرى، فإن أسلوب المجاملة فرض الإبقاء على القديم، جنباً إلى جنب مع الحديث، ولم يخدم الأمور أنه عند انتهاء الطفرة الأولى 1973 – 1990م، والتي تلاها عقد التسعينات، والذي يوصف بالعقد الضائع، لأنه شهد حالة جمود إدارية. وعندما جرى الحديث مجدداً حول الإصلاح الإداري، وكان مبعثه انخفاض سعر برميل النفط إلى تسعة دولارات. فإن الطفرة الثانية بدأت في عام 2004م، وارتفع سعر البترول تدريجياً، حتى مائة دولار للبرميل، وبسبب ذلك تعطل حديث الإصلاح الإداري، لأن الأموال كفيلة بتغطية الثقوب، والعيوب!!
لذلك فإعادة الهيكلة، لكي تحقق هدفها، يجب أن تكون شاملة، وسأعرض فيما يلي مثالاً يوضح حجم المشكلة، ومدى الحاجة الماسة للتغيير: بالرغم من التضخم الكبير في الجهاز الحكومي، وزيادة عدد نواب الوزراء، والمساعدين، والوكلاء، والمديرين العامين، وما يترتب على ذلك من تكاليف تمويل مرتفعة، فإن المركزية قد استوطنت في كل جهاز، بحيث أصبح كل شيء يتم بين الوزير ومدير مكتبه، وأحياناً يشارك سكرتيره فقط، أما بقية الجهاز من نواب، ومساعدين، ووكلاء، فقد تحولوا إلى سكرتارية تنفيذية، تعد مذكرات هدفها «الحصول على توجيه معاليه» فقط!!
ومن المفارقات العجيبة أن تلك المركزية لم تتوقف عند ذلك الحد، فالوزير في كثير من الأحيان، فضّل ألا يمارس صلاحياته، ووجد من الأسهل عليه أن «يرفع»، وهذا المصطلح معروف حتى في الغرب، ويقال «Kick it Upward»، أي تخلص منها إلى الأعلى، والمقصود هو عدم تحمل المسؤولية. وبالمقابل لم يجد المواطن أمامه من وسيلة، إلا أن يكتب برقية لكل جهة ممكنة، يشتكي فيها مظلمة، ويطلب إنصافاً، ولكن بسبب سيل البرقيات الهادر، فلم يعد هناك اهتمام إلا بالبرقية التي لها متابع، أو واسطة، أو معرفة ما. ولئلا أتهم بالمبالغة، سأستعيد معكم حالة حدثت قبل أسابيع قليلة، عندما استضاف الأخ داوود الشريان سيدة سعودية سجلت كمتوفاة، قبل إحدى عشرة سنة، ولم توفّق حتى اليوم بإثبات وجودها على قيد الحياة!! ونتيجة اتصال البرنامج بالناطق الرسمي للأحوال المدنية، أكّد سعادته أنه سينهي معاناتها في اليوم التالي!! وتم ذلك بالفعل!!
- هذا ما يتعلق بموضوع الهيكلة بشكل عام، أما بخصوص وزارة المالية، فهناك مهام ومسؤوليات أخرى للوزارة، داخلية، وخارجية، لم يتطرق لها الأخ الضبعان في مقاله، ولكن كل تلك المسؤوليات لا تعادل حاجة واحدة، ملحة، وواجبة، ألا وهي ربط الميزانية بالخطة، بحيث تقود الخطة العربة، ويصبح تدبير التمويل تحصيل حاصل، وبذلك لا تعطل مشاريع ضرورية، بسبب نقص التمويل، وفي الوقت نفسه لا تعتمد مشاريع خارج الخطة، وهي في الغالب مشاريع ليست لها أولوية، ومكلفة، وكان بإمكانها انتظار دورها.
باختصار عملية الإصلاح الإداري أصبحت ملحّة، وكل تأخير يفوّت فرصاً، خصوصاً في ظل التوسع الكبير في ترسية مشاريع، ينتهي بها الأمر للتعثر، لأن الجهاز الحكومي لم يعد قادراً على معالجة مشكلات القرن الواحد وعشرين، بآليات القرن التاسع عشر.