أُسِّست أول جامعة في المملكة، جامعة الملك سعود حالياً، عام 1957م، أي قبل ما يزيد على خمسين عاماً، ويوجد اليوم في المملكة ما يزيد على ثلاثين جامعة، ومدينة كاملة مخصصة للبحث العلمي هي مدينة الملك عبدالعزيز، ويُضاف لذلك هيئات تقنية، ومعاهد وكليات تابعة لمؤسسات كبرى.
وتحظى جميع هذه الجامعات والمؤسسات بميزانيات ودعم مادي لا بأس به، ولاسيما إذا ما قورن بدول أخرى في العالم الثالث، وحتى دول الاقتصاديات الواعدة كتركيا والمكسيك. وقد استطاعت هذه الجامعات تقديم الكوادر البيروقراطية، والتكنوقراطية التي احتاجت إليها البلاد في العقود الماضية. وقد ساعد على ذلك سياسات ابتعاث مستمر للخارج، إلى جامعات غربية في المجمل.
وقد خطا التعليم خطوات طموحة في العقد الماضي، وتوج ذلك بمحاولة تحويل بعض الجامعات في المملكة، وعلى وجه الخصوص الجامعات الكبرى، إلى جامعات بحثية أسوة بالجامعات في المجتمعات المتطورة، بل إن الحكومة أقدمت على إنشاء جامعة مخصصة للبحث العلمي بالكامل، تستقطب الكفاءات البحثية من أنحاء العالم كافة، بصرف النظر عن جنسيتهم. وللجامعة ميزانية شبه مفتوحة، ورواتب ومكافآت تفوق نظيراتها في العالم المتقدم، ويرأسها ويديرها كوادر أجنبية، ويدرس فيها طلاب من مختلف أنحاء العالم، وتشرف عليها أهم وأكبر الشركات الحكومية شبه خاصة، وأكثرها ملاءة مالية. وما زال المسؤولون يأملون نتاجاً بحثياً مهماً من هذه الجامعة. وعموماً، يبدو أننا اليوم بدأنا نعي أن طموحاتنا فاقت إمكانياتنا، وأنها ربما بُنيت من الأساس على مفاهيم تحتاج للمراجعة.
فرغم كل هذه الجهود التي بُذلت، والإمكانيات التي سُخرت، كان التقدُّم على جبهة البحث العلمي محدوداً جداً، وتأثيره على الاقتصاد والمجتمع لا يُذكر، وانعكس ذلك في المحاولات المتتابعة للجامعات لتلمس طرق مختلفة للتأسيس لقاعدة بحثية ذات جدوى اقتصادية واجتماعية، فزاد الدعم لهيئات بحثية مختلفة في الجامعات، واستُحدثت كراسي بحث، وشراكات بحث خارجية، ثم بدأت ما يسمى بمرحلة المجموعات البحثية، وربط البحث العلمي بالنشر في أوعية محددة، وتغييرات متتابعة، لم تتح أي فرصة حقيقية لتقييم المراحل السابقة.
وكان الدافع والمحرك الحقيقي لهذه الهرولة البحثية شعار «تحويل الاقتصاد السعودي لاقتصاد المعرفة، والمجتمع لمجتمع المعرفة»، ودخل الجميع، مسؤولين وعاملين في المجال البحثي، في مرحلة من التفاؤل المفرط، ولم تكن النتائج في النهائية بحجم التوقعات ولا الدعم، بل يمكن القول إنها خلقت حالة مفرطة من خيبة الأمل فيما بعد. وهناك اليوم محاولات متتابعة لضخ دم جديد في جسد البحث العلمي الذي أُصيب بفقر في كرياته الإنتاجية؛ فالدعم لم يقابله نتائج، وتمثيل الجسد العلمي لتغذيته المادية والتنظيمية كان ضعيفاً. ووضع ذلك مسؤولي الجامعات لدينا تحت ضغط ومسؤولية كبيرة، قد لا تتعلق بهم مباشرة، ولكن بالوضع العام للجامعات لدينا.
وعليه يمكن القول إن البحث العلمي يحتاج إلى إعادة نظر، وإلى إعادة تحديد الأهداف والطموحات بما يتناسب مع الإمكانيات، ومراجعة بعض المفاهيم التي يمكن أن تنطبق على البحث العلمي لدينا، ومنها:
أولاً: وهذا أمر مهم، الجامعات جزءٌ لا يتجزأ من المجتمع بإيجابياته، وسلبياته، وظواهره، وعندما تنتشر ظواهر مثل الترهل، أو التسيب، أو سوء التخطيط، أو ضعف الإنتاجية، أو حتى الفساد - لا سمح الله - فإنه لا يلبث أن يصيب الجامعات. والقول إن الجامعات مؤسسات ذات طابع خاص صحيح، ولكنها ليست ذات طابع ملائكي، ولا تعيش بمعزل عن المجتمع.
ثانياً: القول إن دعم البحث يمكن أن يكون منفصلاً عن دعم التدريس الفعلي، أو بدعم البحث على حساب التدريس، قول غير دقيق، وينطوي على مغالطة أكاديمية؛ فالجامعات البحثية في العالم هي تلك التي يكون مستوى التدريس فيها راقياً، ومعروف عن الباحثين العالميين والعلماء المقتدرين أنهم الأقدر على التعليم وشرح ما توصلوا إليه لطلابهم وللباحثين الآخرين.
ثالثاً: في رأيي، مصطلح «اقتصاد المعرفة» الذي ورد عنواناً مترجماً لكتاب Revolutionary Wealth لتوفلر وهايدي تسبَّب في خلط بعض المفاهيم لدينا، وترجم على أنه «اقتصاد المعرفة»، والمعرفة في اللغة الإنجليزية هي Knowledge، والمقصود في الكتاب هو «المعلومة» أو «المعلومات» Information وليس المعرفة، والأخيرة كلمة لا تجمع بالإنجليزية، وهي تعني الاقتصاد النظيف المبني على تكنولوجيا المعلومات، وتحتكره اليوم شركات تبيع قواعد المعلومات أو تبيع التواصل الرقمي، ويدخل من ضمنها شركات محركات البحث المعلوماتي، وغيرها التي وصلت رؤوس أموالها لأرقام فلكية. وكلمة Revolutionary هنا لا تعني (ثوري)، بل لها معنى ثانوي يعني «مستحدث» أو «المتحول»، والعنوان كان يمكن أن يكون «الثروة القادمة»، «الثروة المتحولة»، وهذا ما خلق اللبس لدى المترجم ومن تلقفوا الكتاب دونما تمحيص، واتخذوه كخارطة طريق للتعليم الجامعي لدينا. والواقع أنك لا يمكن أن تتاجر بمعلومات لا تملكها، ولا تملك حتى البنى التحتية لتنظيمها أو تسويقها، ومن السذاجة توقع أن من يملكها سيقدمها لك مجاناً لتنافسه عليها. فنحن لم نتقدم بعد على صعيد الاقتصاد التقليدي لنقفز للمعلوماتي.
رابعاً: الاقتصاد وليس الجامعات في مجتمعات الاقتصاد المعلوماتي هو من يدعم ويمول البحث العلمي، والجامعات تنظمه تحت إشراف الممولين والجامعات؛ لأن المستثمرين في البحث يبنون ذلك على دراسات جدوى، وعلى متابعة دقيقة له، أما الجامعات فيجب أن تمول البحث المرتبط بالتعليم لتحسين مخرجاته، وكلما ارتفعت مخرجات التعليم ارتفعت معه إمكانياتها البحثية، وهنا نكون وضعنا الحصان أمام العربة. ولكن - للأسف - الثقة بين المؤسسات الاقتصادية والجامعات في مجتمعنا ضعيفة جداً، واقتصادنا يعتمد في مجمله على استيراد المعدات والمعرفة والتقنيات المتعلقة بها، وإعادة تسويقها.
خامساً: يربط البحث العلمي عادة بالحاجات المحلية الاقتصادية؛ لأن دعم البحث في نهاية الأمر استثمارٌ بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، فليس هناك بحث من أجل البحث فقط، ولا يمكن ربط البحث العلمي لدينا بأوعية نشر عالمية أو مؤسسات خارجية؛ لأن الأهداف هنا تختلف وتتعارض، والجانب الإداري في البحث بأهمية البحث ذاته.
سادساً: ما زالت المراكز البحثية في الجامعات تعاني من القرارات الارتجالية، وعدم المتابعة، وسوء الخطط البحثية، فالجامعات لا تطالب الباحثين بالشكل المطلوب بنتائج بحثهم، ومراكز الأبحاث تفتقر لخطط طويلة الأمد، ويشرف عليها أحياناً أناس لا خبرة بحثية لهم، يخضعون لترشيح العمداء فقط، ومهمتهم تكييف الدعم مع حاجة الباحثين الأفراد للدعم. وما زالت كثير من الأبحاث ترتبط بالترقيات والدعم فقط، ولا يشترك فيها بقية أعضاء السلك الأكاديمي كالمحاضرين والمعيدين والطلاب.
سابعاً: أعتقد أن الجامعات ستستفيد كثيراً فيما لو ربطت البحث بالتدريس في القاعات، واشترطت إشراك معيدين وطلاب فيه، وربطت سياسة الابتعاث بهذه الأبحاث؛ لأن الدراسات العليا تعتمد على البحث العلمي، وهي امتداد له، وهنا يمكن استحداث الاستمرارية المطلوبة في العملية التعليمية والبحثية، ففصل التعليم عن البحث، وربطه بتنظيمات أخرى، كان خطأ كبيراً في تقديري.
وفي النهاية، ومن أجل النهوض بالجامعات والاقتصاد لا بد من تحديد الأولويات البحثية في كل مجال بناء على احتياجاتنا وإمكاناتنا، لا بناء على تنبؤات الفن توفلر، فتوفلر أمريكي تكلم عن واقع الاقتصاد الأمريكي وأفقه المستقبلي. والسياق الحضاري، والاجتماعي، والمعرفي، والاقتصادي مختلفٌ لدينا عن أمريكا، وفكرة الاقتصاد المعرفي التي رُوّج لها في مجتمعنا كانت - في نظري - فكرة رومانسية، ودُفع في سبيل الاستمتاع بهذا كحلم صيف جميل إمكانيات كبيرة جداً دون أي جدوى أو مردود حقيقي، واستُغل الحلم أحياناً بشكل ذكي ممن وظفوه بشكل براقماتي لتحسن وضعهم الاجتماعي.
وفي النهاية، لا بد أن أؤكد ما سبق وذكرته، وهو أن القول بفصل البحث عن التعليم الفعلي في القاعات هو ما مهد للتصور غير الواقعي لمجتمع معرفة وهمي لدينا. وليت مسؤولي التعليم العالي لدينا يلتفتون للجانب التعليمي لدينا؛ لأنه بحاجة لعمل كبير جداً يعيدنا لواقعنا وواقع مخرجات جامعاتنا.