حين تختلي حُلكة الليل بالقمر.. استغلالاً لوحدته «هنا ترتطم بي أحلامي وأتغنى ترهات».. وتظل أنت يا أبي فارس حكاياتي.. أذكر جيداً حين كُنت في عمر تتكسر فيه حروفي كيف أستفهم عما تكتب يا أبي..
كان يُغريني منظرك وأنت في مكتبك، محارباً بقلمك خطوط مذكرتك..
سألتُك في شغف: ما تكتب يا أبي..؟ فأنت دائماً ما تختلي بنفسك هنا..!!
فتحضِنُني ملاطفاً وتقول:
«حينما يكون هناك شيء يعتمر بخاطرك لا تقدرين على المواجهة بقوله، امسكي قلمكِ واكتبيه بكل جرأة.. خُذي قلمي هذا.. وحين تتعلمين كيف تحاربين مذكرتك لترسمي حروف اسمك..اكتبي به».
* * * *
أتذكر جيداً حين كُنت أعيش مراهقتي.. ماذا كُنت تُعلمني وكيف كنت تمسك بيدي لتبعدني عن الخطأ.. سألتك يا أبي حين أبصرت تعلقك بمذكرتك واندماجك بالكتابة فيها:
ما الذي تكتبه يا أبي؟ أهو كلام لا يصلح للنشر.. أم كلام لا تقدر على المواجهة بقوله؟! يدفعني فضول لأقرأ ما تكتب!! قلت لي وأنت تغلق مذكرتك..»يبدو أني سأُعذب فضولك كثيراً.. انصتي لي يا ابنتي».
أستطيع أن أُواجه العالم أجمع بما أكتبه.. إذا أردت ذلك، وأردت للعالم أن يعرفه، لكن حين يكون هناك يا ابنتي حديثٌ بينكِ وبين قلبكِ.. ليس بالضرورة أن يعرفه العالم، لأني أُريد حينها أن يكون حديث اثنين لا ثالث لهما.. ثم إني يا ابنتي سأُوصيكِ هذه المذكرة، فحين يُقال إني ودعت هذه الدنيا ورحلت.. اقرئيه وأعطيه لمن كتبت إهدائي له..» قلت حينها ملاطفاً (سامحيني أظنني قتلت فضولك هكذا)..!
* * * *
كم مرة حاولت خلسة يا أبي أن أقرأه لكن ما ألبث أن أعود أدراجي يائسة.. فوصيتك لي تقف دائماً بوجهي!! وانطوى زمن ورحلت عن هذه الدنيا واحتضن جسدك الطاهر التراب «كان رحيلك يا أبي صعباً عليّ، هزّ أعماق وجداني.. تركت بداخلي أثراً لن يقدر أحدٌ على محوه.. زرعت بداخلي معاني وقيماً أسمو بها فخراً..،
علمتني يا أبي كيف أكتب.. وكيف أُصور بقلمي مشاعر قلبي..
علمتني يا أبي كيف أُحافظ على كرامتي.. وأن لا يعلو بعد التوحيد ثم كرامة وطني شيء عليها..).
كانت أوقات العزاء صعبةً عليّ..كان صعباً عليّ تصديق، أن عبارات العزاء تلك تُقال عنك.. صعباً جداً.. وحين انتهى عزاء أهلي.. فعزائي لك لم ينته..حضنت كرسيك الذي تجلس عليه فبقايا رائِحَتُك ما زالت عالقة فيه، بحثت عن مذكرتك وحضنتها، لم يكن هناك جُرأةٌ لأفتحها يا أبي.. ما زلت متمسكة بوصيتك متوهمة أنك لم تمت بعد..كُنت أضحك بكل غباء نافية رحيلك..»
مرت بي أيام أُحدثك حتى في نومي.. مرت السنون يا أبي.. وأنا لم أملك الجُرأة بعد لأفتح مذكرتك..خفت كثيراً يا أبي، خفتُ أن تزيدني حروفك ألماً.. فأموت شوقاً.. وفي لحظة حدثتني نفسي أن أفتحها لعلّ أن يكون فيها شيءٌ ينفي رحيلك..
وفتحتُها، وبكيتُك مع كل حرفٍ كتبته «كم كان هذا عظيماً يا أبي.. حين كان الإهداء لـ..أُميّ «كانت كُل كلمةٍ كُتبت في هذه المذكرة.. تنطق غزلاً بها واعتذاراً عن لحظاتٍ لم تكن فيها بقربها..»
وكأنك تعرف بموعد رحيلك يا أبي.. حين كتبت بآخر ورقة وصيتك لها.. إنني لهذه اللحظة أتمزق ألماً يا أبي..حين كتبت عني كلمات في مذكرتك.. قلت «إني أُشبهك كثيراً حتى في قلمك) آه يا أبي.. علمتني الكثير حتى في رحيلك.. وحدُك يا أبي لم ولن تكون مجرد ذكرى عابرةً في حياتي..
وكيف أنساك وأنسى رحيلك.. واسمك أبداً في عناق لأسمي..!!
سأحكي للعالم عن رجُلٍ أكون ابنته، سأحكي «عن معاني أخلاقك وعظيم وفائك وكرمك سأظل أنشُدك رثاءً يا أبي.. وسأظل أُشبهك كثيراً.. حتى في قلمك».