قراءة شرعية في منهج تنظيم داعش وجبهة النصرة وتنظيم القاعدة
أكثر ما يؤلم تلك المشاهد المعروضة على اليوتيوب وفيها يجلد الناس وتقطع رؤوسهم وأيديهم على قضايا كبيرة حيناً وقضايا تافهة أحياناً في الأسواق في مناطق التوتر في سوريا والعراق وغيرها من بلاد المسلمين اليوم، ممن هي تخضع لصراعات طائفية وحروب أهلية، ولقد حرص الإسلام على ربط الناس في غياب الإمام بالعلماء القادرين.....
..... على استنباط الأحكام وتنزيلها على الواقع حتى لا تحصل فوضى وتناقضات تؤثر سلبا على الأمة ومسيرتها، ومانراه اليوم من غياب وزهد وتزهيد بالعلماء الربانيين ينذر بالخطر، تحقيقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يترك عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا).
نعم، لم يجر الويلات على هذه الأمة التي تركها المصطفى - صلى الله عليه وسلم- على المحجة البيضاء إلا الحزبية والتحزب التي أصبح الولاء لها والبراء من غيرها جهلاً وعصبية وفتاً في عضد المسلمين، وربما لا يبالغ العقلاء إذا قالوا إن تنظيم القاعدة واعتماده على العنف والتكفير والتوحيش وهذه الاستراتيجية التي أثبت الواقع فشلها من أشد من صد عن سبيل الله في القرون المتأخرة، وأخطر ما يحتج به أن الاجتهاد في مصير الأمة أصبح مباحاً لكل مغامر، والله وحده يعلم ما يكتنف ذلك المجتهد من مؤثرات عقلية ونفسية واجتماعية تجعله متجهماً ومنتقماً ومنفجراً لأي موقف ومفجراً لكل من حوله، وأما قولهم فمن اجتهد فأصاب فله أجران ومن اجتهد فأخطأ فله أجر الاجتهاد فيجب أن يضبط بضوابط الشرع والموضوعية والقدرة على الاجتهاد والأهلية في مثل هذه القضايا، ولذلك ينجو المغامرون من المحاسبة بحجة الاجتهاد الذي لا يمكن أن يكون مكانه القضايا الكبرى والمصير العام وشأن المجموع، وأعتقد أن المجتهد المخطئ مأجور فيما يخص الشأن الخاص والقضايا الصغيرة وما يتعلق بينه وبين ربه جل وعلا بشرط الأهلية أيضاً.
وعوداً على مقاطع اليوتيوب التي بينت للعالم مدى الجهل الذي يكتنف قيادات داعش والنصرة وتنظيم القاعدة وأن كل ما يقومون به هو من الصد عن سبيل الله ومخالف للشرع الإسلامي من أوجة عديدة:
1 - في كتاب إدارة التوحش لبكر أبو ناجي، وهو يمثل فكر واستراتيجية القاعدة نجد أن التنظيم يسعى في الأماكن التي حصلت فيها الفوضى والتوحش يطبق من تم استقطابهم ما يسمى بالحدود والسجن والجلد والنكاية ولو بطريقة غير مشروعة تحقيقاً للشوكة وإرهاب الناس، ولذلك نرى في مقاطع اليوتيوب تطبيقها على يد داعش والنصرة لأنهما من رحم تنظيم القاعدة، وهذه المشاهد السالفة تحقيق لاستراتيجيته في الواقع السوري دونما رعاية للمصالح والمفاسد التي تترتب على ذلك، ومن أهمها أن العالم الذي بيده التغيير ونصرة المسلمين تخلى عنهم بسبب مغامرة الحزبيين وعقليتهم الصغيرة وإدراكهم الضعيف بمآلات الأمور وجهلهم بأسس العلم الشرعي.. بل إننا نجد أن هذه الممارسات بهذا الشكل المقزز هي أكثر من أعطى المستبد مسوغا للحرب والتنكيل بأهل الإسلام والسواد الأعظم من المسلمين، ولافائدة من جلد الناس في الشوارع والأرواح تزهق والحرمات تنتهك على يد المجرم الآخر.
2 - من أجل المهام التي تسند إلى الإمام ونوابه هي إقامة الحدود وكل ما فيه صلاح الرعية، وقد تواتر وتوافر كلام العلماء في هذا بأن لا يقيم الحدود إلا الإمام أو نائبه. فإن غاب كما هو في الواقع السوري فقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى ذلك فقال رحمه الله: خاطب الله المؤمنين بالحدود والحقوق خطابا مطلقا، كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} (38) سورة المائدة، وقال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} (2) سورة النور. وكذلك قوله: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} (4) سورة النور، لكن قد علم أن المخاطب بالفعل لا بد أن يكون قادرا عليه، والعاجزون لا يجب عليهم، وقد عُلِمَ أن هذا فرض على الكفاية، وهو مثل الجهاد، بل هو نوع من الجهاد. فقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} (246) سورة البقرة، وقوله: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ} (244) سورة البقرة وقوله: {إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ} (39) سورة التوبة، ونحو ذلك هو فرض على الكفاية من القادرين. و»القدرة» هي السلطان، فلهذا: وجب إقامة الحدود على ذي السلطان ونوابه.»
وأما الواقع السوري الذي يخلو من إمام وعلماء قادرين وعقلاء فهو يقاس على واقع الغزو الذي نهي فيه عن تطبيق الحدود كما سيأتي.
3 - تنزيل الأحكام على الواقع هو من مهمة العلماء الربانيين والقضاة المتمرسين ممن أنابهم ولي الأمر عنه، فإن غاب ولي الأمر والعلماء الربانيون لأي سبب فلا يمكن لأي مغامر أن ينزل الحكم لأن ذلك قد يؤدي إلى خلل وفوضى، فعملية تحقيق المناط ينبغي أن تكون مسبوقة بإدراك الحكم الشرعي وفهمه، عن طريق النظر في مدى ثبوته في الوقائع والأعيان والجزئيات المناسبة. وهذا ما عبر عنه الشاطبي في كتابه الموافقات في أصول الشريعة بقوله:» أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي، لكن يبقى النظر في تعيين محله».. كما أن الحكم في مرحلة العموم والإطلاق يختلف عن مرحلة التطبيق على الفرد أو الجماعة..
4 - عطفاً على ما سبق فإن العلماء يتحدثون عن عموم ومطلق كالولاء والبراء والربا والاختلاط والتكفير والحدود وغير ذلك من الأمور وحينما يتحدثون عن بعض الأفراد أو الدول نجدهم لايسقطون تلك العموميات على تلك الحالات الخاصة بل لابد من توافر الشروط وانتفاء الموانع، وهي صعبة في المجمل العام، ولم يترك الإسلام الأمر للمغامرين يسقطونها على من شاءوا وكيفما شاءوا، ولا أدل على ذلك من حادثة الصحابي حاطب بن أبي بلتعة وهل تتعارض مع قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، ولو كانت الأمور على ظاهرها وبعموميتها لما قال الله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ}....
5 - نحن نعرف جميعاً أن حكم الواقع السوري حكم الغزو وربما هو أشد منه، وإذا كانت الحدود يصرف النظر عن تطبيقها لحكمة ليس تعطيلاً وتحقيقاً لها وإنما درءاً لها بالشبهات، فما بالك بما دونها من المعاصي كشرب الدخان وحلق اللحى والمعاكسات وغيرها ممن تجلد عليه داعش والنصرة، ودليل ذلك ما أخرجه أبو داود، السنن،كتاب الحدود باب في الرجل يسرق في الغزو أيقطع؟ حديث 4408، والترمذي، السنن، كتاب الحدود باب ما جاء في ألا تقطع الأيدي في الغزو، حديث 1450، إذ تحدث العلماء عن مسألة إقامة الحدود في الغزو، فقد ورد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- « نهى أن تقطع الأيدي في الغزو»، والسبب في ذلك، هو الخشية من أن يترتب على تطبيق حدّ السرقة لحوق صاحبه بالمشركين، وهو أبغض عند الله من تأخير إقامة الحدّ كما قال ابن القيم في إعلام الموقعين 3/ 5.. وهذا فقه الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذ قرر الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه - أن جميع الحدود لا تقام في الغزو، وكتب إلى الناس أن لا يجلدن أمير جيش ولا سرية رجلاً من المسلمين حداً وهو غاز، حتى يقطع الدرب قافلاً، لئلا تلحقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار وهذا ما أخرجه سعيد بن منصور في السنن،كتاب الجهاد باب كراهية، حديث (2500)، وعبد الرزاق في المصنف، إقامة الحدود في أرض العدو، كتاب الجهاد، باب هل يقام الحد على المسلم، وابن أبي شيبة، كتاب الحدود، باب في إقامة الحد على الرجل في أرض العدو.. ونص ابن قدامة في المغني 13-173 على أن هذا ما ذهبت إليه طائفة من الفقهاء، منهم: الأوزاعي وإسحاق وأحمد بن حنبل -رضي الله عنهم أجمعين- وذلك اعتباراً منهم لنتائج التطبيق، والتبصر بمآلات الأفعال.
6 - الناس في الواقع السوري أهلكهم الجوع والبرد والخوف وهذا مدعاة إلى أن تستحضر القواعد الفقهية، التي تتضمن هذا المعنى وتعبِّر عنه، مثل قاعدة «الضرورات تبيح المحظورات» و»الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة» و»المشقة تجلب التيسير». وكما قال ابن القيم في إعلام الموقعين 3-14:» ولا واجب في الشريعة مع العجز، ولا حرام مع الضرورة»...
7 - عطفاً على ما سبق فلا يجوز لداعش والنصرة وغيرها من التنظيمات الجاهلة أن تمتحن المسلمين في هذه الظروف العصيبة، فالخليفة الراشد عمر بن الخطاب مع قوته في الحق وشدته في تطبيق الحدود لم يُنفِّذ حد السرقة في عام الرمادة عام 18 هـ، حيث كانت الشبهة قائمة في اضطرار الناس للسرقة بسبب الجوع.
وروى عبد الرزاق في المصنف أن غلمانًا لابن حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه سرقوا ناقة لرجل من مُزَيْنَة، فأتى بهم عمر، فأقروا، فأمر كثيرَ بن الصلت بقطع أيديهم؛ فلما وَلَّى ردَّه ثم قال: «أما والله لولا أني أعلم أنكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى إن أحدهم لو أكل ما حَرَّمَ الله عليه لحل له، لقطعت أيديهم»، ثم وجَّه القول لابن حاطب فقال: وايم الله إذ لم أفعل ذلك لأُغَرِّمَنَّك غرامة توجعك! ثم قال: يا مُزَنيُّ، بكم أُرِيدَتْ منك ناقتُك؟ قال: بأربعمائة. قال عمر لابن حاطب: اذهب فأعطه ثمانمائة».
8 - في الواقع السوري يجب أن يستحضر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اِدْرَءوا الحُدُودَ عَنِ المُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ فَإِنْ وَجَدْتُمْ لِمُسْلِمٍ مَخْرَجًا فَخَلُّوا سَبِيلَهُ؛ فَإِنَّ الإِمَامَ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعَفْوِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ بِالْعُقُوبَةِ»، وغيرها من الأحاديث التي تدل على درء الحدود في المجتمع الآمن، وغير الآمن أولى لعدم توافر ما يتحقق به الإثبات.
9 - الإسلام ليس دموياً ولا مصاصاً للدماء، بل هو الرحمة المهداة للبشرية، ولم يكن الهدف من الحدود تطبيقها عفي أي ظرف بل الهدف منها حماية المجتمع بالمجمل العام، ولذلك كانت قاعدة ادرءوا الحدود بالشبهات، وكذلك تلقين ماعز رضي الله عنه الإنكار ولعلك ولعلك، ثم لما هرب منهم ويريد لقاء رسول في ساعة التنفيذ، قال المصطفى هلا تركتموه، ويكفي أن نعلم أن هدف اشتراط الإسلام لإثبات الزنا أربعة شهود هو حماية الأعراض وتقليل التطبيق، ولذلك يقال إنه لم تثبت جريمة الزنا عن طريق الشهود في التاريخ الإسلامي، وكذلك لم يُنَفَّذْ حد السرقة في أربعمائة سنة كاملة إلا ست مراتٍ، والسبب في ذلك أنها عقوبات قُصِدَ بها التخويف الذي يمنع وقوعها ابتداء، ووقاية المجتمع من أسباب الجريمة قبل توقيع العقوبة عدالة وحماية، أما إذا وقعت فالعلاج يختلف تماماً في ذهن العلماء والقضاة والعقلاء ... والله من وراء القصد.