منذ توحيد هذه البلاد علي يدي الملك عبد العزيز- رحمه الله- عام 1351هـ انتقلنا من مرحلة المجتمع الريفي والبدوي إلى مجتمع المدينة التقليدي كمنطلق لتأسيس دولة، ثم دخلنا مرحلة بدايات التحديث في عهد الملك سعود، ثم استكمل هذا الطريق الملك فيصل رغم انشغال المنطقة العربية بصراعات سياسية وفكرية، ثم دخلنا مرحلة طفرة تنموية هائلة في عهد الملك خالد، واستمرت في عهد الملك فهد؛ لولا عوائق وتفجرات سياسية عربية وعالمية أشعلت المنطقة فأعاقت مسيرة التنمية أو أوقفتها سنوات؛ كانهيار سعر البترول في منتصف العقد الثاني من مطلع القرن الهجري الجديد، ثم أزمة احتلال الكويت وما أحدثته من إرباك وتبعات مالية هائلة لم تستطع الدولة الخروج من ضغوطها إلا بعد عودة صعود البترول إلى ما فوق المائة دولار وإجراء بعض الإصلاحات الضرورية، ثم انطلقنا من جديد في خطوات تنموية كبيرة وعميقة وجذرية في عهد الملك عبد الله الذي يشكل عهده بمثابة إعادة بناء وتجديد وانعتاق من دورة السكون الطويلة التي أعقبت أزمة تحرير الكويت.
أما في الجانب الفكري؛ فقد انطلقنا من تقليدية التعليم بعد التأسيس إلى الأكاديمي عام 1369هـ بكلية الشريعة بمكة، ولم نواجه ما يمكن تسميته بردود فعل تعيق سير الدولة نحو تأسيس مجتمع المدني إلا بحركة إخوان من طاع الله 1349هـ وواجهها الملك عبد العزيز بحكمة وصرامة حتى اندثرت، ثم تشكل رد فعل جديد مع تسارع خطى التنمية والمجالات التي هيأتها الطفرة المالية قبل نهاية القرن الهجري الماضي فتكون فكرمتشدد غال مضاد اتجاه المجتمع والدولة نحو البناء الحديث والتواصل مع الحضارات والثقافات الإنسانية؛ وهو ما عرف بفتنة الحرم بقيادة جهيمان عام 1400هـ، وحدث رد الفعل الثالث بتكون الفكر الإرهابي وظهر أول فعل إجرامي له بتفجير العليا 1416هـ وقد تشكل ونما بأسباب كثيرة متمازجة ومتداخلة بين سلفية غالية وإخوانية حركية مشكلا ما عرف بالسلفية الجهادية التي توسلت بخطابات موغلة في الغلو والقطيعة مع العالم ومواجهة بعنف المختلف أيا كان طائفة أو دينا أو حضارة؛ وقد أشغلت مجتمعنا وعطلت حركته عقدا من الزمن إلى نهاية عام 1427هـ.
هذه قراءة سريعة وعابرة لخط حركة التغيير والتحديث بدءا من التأسيس مترافقاً مع موجات التنمية التي تزدهر وتتسارع خطواتها بعوامل مختلفة في بعض المراحل أو تهدأ وتصاب بحالة سكون متأثرة أيضا بعوامل وأسباب داخلية أو خارجية، ثم خط سير الاتجاهات الفكرية لمجتمعنا؛ الذي بدأ ريفيا تقليديا سلفيا مسالما هادئا في إقباله الرفيق على ذلك اليسير من الجدة والتحديث الذي سمحت به الظروف المالية وتوفر الكوادر القادرة على الأداء في عهد الملك المؤسس، ثم الممانعات المتوقعة رغم الحكمة السياسية المجاملة للمفهومات الاجتماعية التقليدية والتريث في إحداث ما كان يجب إحداثه مبكراً مما تستدعيه الضرورة؛ ومع ذلك التعامل الرقيق مع العقل التقليدي الاجتماعي إلا أن رد الفعل كان عنيفا ومصادما وتمثل في ثلاث وقائع: إخوان من طاع الله وانتهى أمرهم بمعركة السبلة عام 1349هـ وفتنة الحرم وقضي عليها وتم تطهير الحرم الشريف بعد أسبوعين من وقوع الحادثة أي في 14 محرم 1400هـ، ثم فتنة الإرهاب التي استمرت عقدا من الزمن وأخمدت بنهاية عام 1427هـ وتلاشت جسداً إما بالقتل أو السجن أو الهرب إلى مواضع الفتن والحروب في ديار العرب كاليمن أو العراق أو سوريا؛ ولكنها فكرا تحتاج إلى معالجات ثقافية وإعلامية واعية.
نعم نحن نتغير، وكلما حثثنا السير في طريقنا نحو إعادة صياغة المجتمع وتحديثه ودفق الحياة المتحضرة فيه بتأسيس بنية تحتية عميقة في التعليم والتثقيف والانفتاح على الحضارات والثقافات الأخرى؛ سنواجه بموجات صد وممانعة من أجيال جديدة تتأثر بخطابات الرفض وتستجيب لدعاوى الانغلاق، وعلينا أن نسعى إلى عدم إتاحة الفرصة للخطابات المنغلقة لتستقطب من جديد أجيالنا الشابة وترميهم في حالة احتراب مع مجتمعهم ومع العالم.