أقرأ حاليا ً في كتاب عنوانه: لماذا تفشل الأمم، أصول القوة والازدهار والفقر. العنوان بالإنجليزية: why nations fail , the origins of power, prosperity and poverty.
يقدم الكتاب تحليلا ً مكثفا ً عن أسباب القوة والضعف في المجتمعات بمجهود اثنين من كبار أساتذة الاقتصاد، أحدهما البروفيسور دارون عاصم أوغلو، أمريكي من أصول تركية، يعمل في معهد ماساشوست للتقنية (MTI) والمؤلف الآخر هو البروفيسور جيمس.أ.روبينسون، أستاذ العلوم السياسية والاقتصاد في جامعة هارفرد.
يبدأ الفصل الأول في الكتاب بقصة مدينتين كانتا يوما ً ما مدينة واحدة، ثم انفصلتا إلى اثنتين، واحدة أمريكية والأخرى مكسيكية. العنوان الموحي للفصل الأول من الكتاب هو ما اتخذته أعلاه عنوانا ً لهذا المقال، مع الالتزام بعدم التصرف المخل في المحتوى، والمحتوى كالتالي: ثمة حاجز في الوسط يقسم مدينتي نوغالس. عندما تقف أمام الحاجز وتنظر نحو الشمال ترى نوغالس / أريزونا / الأمريكية. متوسط الدخل للأسرة في هذه المدينة يبلغ حوالي ثلاثين ألف دولار في السنة. أغلب الشباب فيها يذهبون للمدارس، وأكثر البالغين معهم الشهادة الثانوية. رغم ادعاءات السكان بقصور العناية الصحية، إلا أنهم يتمتعون بصحة جيدة وبمتوسط أعمار مرتفع. أغلبهم تعدى الخامسة والستين ومسجل في التأمين الصحي، وهذه فقط إحدى الخدمات التي تقدمها الحكومة الأمريكية لهم ويعتبرونها من البديهيات، مثلها مثل الكهرباء والتلفون والصرف الصحي وشبكة المواصلات التي تربطهم ببعض وبالداخل الأمريكي. أهم من ذلك تمتعهم بحماية النظام والقانون في الولايات المتحدة الأمريكية.
يمارس المواطنون في نوغالس- أريزونا أعمالهم بدون الخوف على حياتهم والقلق من السرقات ومصادرة الممتلكات الشخصية. بالرغم من التذمر من بعض نواحي القصور وبعض مظاهر الفساد، إلا أن سكان نوغالس أريزونا يعتبرون إلتزام الحكومة الأمريكية بمصالحهم من الأمور البديهية. أصبحت الديموقراطية الأمريكية بالنسبة لسكان نوغالس أريزونا جزءا ً من اللحم والدم.
ولكن عند إدارة النظر نحو جنوب الخط الفاصل نرى نوغالس / سونورا التابعة لدولة المكسيك. بالرغم من وقوع نوغالس سونورا في جزء يعتبر معيشيا ً لا بأس به بالمقاييس المكسيكية، إلا أن متوسط الدخل العائلي فيها لا يتعدى ثلث مثيله في نوغالس أريزونا المجاورة. أغلب السكان البالغين فيها لم يحصلوا على التعليم الثانوي، والكثير من الشباب لا يذهبون أصلا ً للمدارس. في هذه المدينة تتعايش الأمهات مع نسبة عالية من وفيات الأطفال، وسوء الخدمات الصحية فيها يزيل كل إمكانيات التعجب من تدني أعمار سكانها مقارنة بسكان نوغالس أريزونا المجاورة.
أوضاع الشوارع في مدينتهم في منتهى السوء، ومتطلبات الأمن والنظام مصادر يوميه للانزعاج. الجريمة هناك منتشرة، والمغامرة بافتتاح مشروع تجاري خاص مدعاة للخطر. ليس على الإنسان فيها أن يتحسب للسطو المسلح فقط، ولكن عليه أيضا ً أن يدفع الرشوة لكل الموظفين الذين تمر عليهم أوراقه لتصريح بمشروع تجاري خاص. مواطنو نوغالس سونورا يتعايشون يوميا ً مع ارتشاء وتدني كفاءة الموظفين والسياسيين الممثلين لهم في الدولة.
بعد هذه المقدمة الوصفية للأوضاع المتعاكسة تماما ًلمدينتين متلاصقتين يحضر التساؤل: كيف يتأتى أن تكون هذه الاختلافات الكبيرة موجودة في الحيز الجغرافي الواحد؟. لا يوجد بين المدينتين أي فوارق جغرافية أو مناخية، واحتمالات التعرض للاجتياحات المرضية واحدة لأن الجراثيم لا تعترف بالفواصل السياسية.
سكان المدينتين يعودون لنفس الأصول، وقد كانت المنطقة بكاملها تابعة للمكسيك، حتى انتقلت ملكية القسم الشمالي منها للولايات المتحدة الأمريكية عام 1821 م.
إذا ً، وهذا هو الفارق الأكثر أهمية ً، يتضح أن تبعة نوغالس أريزونا للدولة الأمريكية فتحت الأبواب لمواطنيها للمشاركة في أنماط وفرص الحياة والتطور الأمريكية، أما تبعية نوغالس سونورا فجعلت سكانها يخضعون لفرص وأنماط متخلفة، مثلما هو سائد في بقية البلاد المكسيكية.
الخلاصة: ليست الأصول العرقية ولا الاختلافات البيولوجية ولا حتى الجغرافية والمناخية هي التي تتحكم في إمكانيات القوة والضعف والتطور والتخلف عند الأمم والشعوب، لكنها الأنماط السياسية والطرق الإدارية المقيدة بمرجعيات سياسية مركزية.