في المقال السابق تحدثنا عن آفة اجتماعية متأصلة في المجتمعات العربية والإسلامية مثَّلت ولا تزال حجر عثرة في لحاقها بركب الحضارة العالمية، وهي البحث عن أسباب خارجية أو شماعات لتعليق الإخفاقات عليها.. وقلنا إن تراكم إخفاقات المجتمعات العربية والإسلامية في العصر الحديث تعود في أحد أسبابها إلى أن هذه المجتمعات لا تكلف نفسها في تحمُّل أخطائها والاعتراف بها والتراجع عنها، وبدلاً من الوقوف على الأخطاء والاعتراف بها ومحاولة علاجها وتصحيح المسار تبحث عن أسباب خارجية لتعليق تلك الأخطاء عليها، حتى إن البعض عندما تتعذر لديه الأسباب الخارجية الحسية ويدرك أنها لم تعد مقبولة لتبرير إخفاقاته أو إخفاقات من يعول يبحث عن أسباب غيبية معنوية لتعليق الإخفاق عليها، كأن يعزو السبب إلى عين عائن أو حسد حاسد.. ونسيت هذه المجتمعات أو تناست أن عدوها الأول هو أنفسها والشيطان وهو الأمر الذي أوصل الأمة العربية - أفراداً وجماعات - إلى ما هي عليه.
ومن ثم فقد كان على هذه المجتمعات أن تقف مع نفسها وتراجع مسارها وتكف عن البحث عن شماعات خارجية لتعلق أخطاءها عليها.. وأن عليها أن تبدأ بالانتصار على العدو الأول (النفس والشيطان) إذا ما أرادت تحقيق طموحاتها والسير في ركب الحضارة الحديثة، لأن تبرير الإخفاق بمسببات خارجية أو بعدو أجنبي لم ولن يساعد على معاجة الأخطاء وتصحيح المسار.
والسؤال الذي قد يطرحه البعض هو: كيف يمكن تغيير هذه المفاهيم الاجتماعية الرسخة، وما هو السبيل إلى ذلك؟ وقبل أن نحاول الإجابة على السؤال المطروح لا بد من التسليم بأن الانتصار على العدو الداخلي (النفس) هو الخطوة الأولى لمعاجة الإخفاق وتصحيح المسار.. في سورة الفلق أُمرنا بالالتجاء والاستعانة باسم واحد من أسماء الجلالة (رب الفلق) للانتصار على العدو الخارجي، في الوقت الذي أُمرنا فيه بالاستعاذة بثلاثة أسماء عظمى (رب الناس ملك الناس إله الناس) عندما يكون العدو داخلياً كما في سورة الناس.
في تقديري أن هذه المسلَّمة هي الفيصل والمحور الأساس في أي محاولة لمعالجة الإخفاقات والحد من تكرار المعضلات التي نواجهها في المجتمعات العربية والإسلامية - أفراداً وجماعات -.
وبالتالي فإن التسليم بذلك سيساعدنا - بإذن الله - على معالجة الإخفاقات، بل وعلى الحد من تكرارها.
وبالتالي، فإن من الأهمية بمكان أن نؤصّل لدى النشء الجديد التركيز على محاسبة النفس قبل محاسبة الآخرين واتهامها بأنها السبب الرئيس فيما يحدث من إخفاقات، وصدق الحق سبحانه القائل: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ}.. أي أن يتم تكريس هذا السلوك التربوي في المراحل الأولى من التعليم وأن يتضمن المنهج التربوي تكريس المفاهيم التي تُؤصل لمبدأ تحمل المسؤولية والثقة بالنفس، وفق نهج حضاري يتضمن فيما يتضمن:
1 - المبادرة بالاعتراف بالخطأ عند وقوعه كأول خطوة لتصحيح المسار.. والاعتراف بالخطأ كالماء البارد تخشاه قبل أن تغشاه، فإذا غشيته فقد قدرته على إيذائك.
2 - وضع النفس في دائرة المتهم الأول عند مواجهة أي إخفاق أو عثرة في المسار.
3 - الاستفادة من الدروس التي تمر بنا والعثرات التي نقع فيها - أفراداً وجماعات -.
4 - القناعة بضرورة العلاج لتصحيح المسار.
5 - رفع الوعي الاجتماعي لدى الكل - آباء وأبناء - بنبذ سلوك تبرير الأخطاء وتعليقها على أسباب خارجية.
6 - ترسيخ مبادئ الثقة بالنفس وتحمُّل المسؤولية.
7 - التسليم بأن الانتصار على النفس أولى وأهم من الانتصار على العدو الخارجي.
والقائمة تطول ولكن المقام لا يتسع.
والله الهادي إلى سواء السبيل.