يئن القلم بين أصابعي، وإن انبسطت القراطيس لأفكاري، ونحن نرى تعدياً على الأرواح البريئة من نوع آخر؛ نتيجة التهور، وقيادة المركبة بسرعة جنونية، ضاربين أصحابها بقول العقل، وحكم المنطق، وبالأنظمة، والقوانين عرض الحائط. فالإحصاءات المروعة تتحدث عن زيادة في الحوادث المرورية - سنوياً - وعن مئات القتلى تناثرت
أعضاؤهم أشلاء، وأهريقت دماؤهم بين الحديد، والطرقات - ومثلها - إعاقات دائمة، وأخرى مؤقتة، مخلفة أرقاما مخيفة، تقف وراءها ظواهر سيئة، كالسرعة الجنونية، وقطع الإشارة، وممارسة التفحيط، وغيرها من المخالفات الممارسة في إزهاق الأنفس البريئة، وما يترتب عليها من الآلام الاجتماعية.
قبل أيام، توفي شاب عشريني، ومعه أخواته الأربع، إثر حادث سير مؤسف، تسبب به شخص كان بحالة غير طبيعية، حسب تصريح صحيفة عكاظ، في عددها «17222»، فهتكت تلك الحادثة على والدي المتوفين - رحمهم الله - أستار الآلام، والشجون، حين نثروها على فلذات أكبادهما، بعد أن كان وصالهم لهما مبتغى، وتاقت عيونهما لرؤية أولادهم؛ لكنهم رحلوا دون إرادتهما، فسكبا مدامعهما، وتقطعت قلوبهما، وتمزقت كبودهما؛ بسبب سرعة رعناء، ونزوة هوجاء.
إن غياب الوعي، والمشاعر الانفعالية، ولدت هكذا سلوكيات، وجعلت فئة من المتهورين يقود مركبته بسرعة طائشة، أو تحت تأثير الكحول، والمخدرات، وهو يعلم يقينا أن الموت نتيجة حتمية لهوس السرعة الاستعراضية القاتلة. فكم من أرواح حصدت، وكم من أنفس أزهقت، وكم من أسر شتت، وكم من أطراف بترت، وكم من أوصاف طمست، بسبب تلك الممارسات اللامسؤولة.
إن للأذية صورا لا تكاد تنتهي، ولا يشك عاقل في حرمة هذه الممارسات الإجرامية من الناحية الشرعية؛ نظرا لما يترتب على ارتكابها من قتلٍ للأنفس، وإتلافٍ للأموال، وإزعاجٍ للآخرين، وتعطيلٍ لحركة السير. وإذا كان الطبراني، وغيره، أخرجوا بسند صحيح، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ آذَى المسلمين في طرقِهِمْ، وجَبَتْ عليه لعْنتهم»، - وكذا - فإن من قواعد الإسلام العظام، قول النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي أخرجه - الإمام - أحمد، وابن ماجة: «لا ضَرَرَ، ولا ضِرَار»، فإن هذا التهور يعتبر جريمة مجتمعية، وأحد الأخلاقيات السيئة التي يمارسها بعض أفراد المجتمع، مستهينين بالأرواح التي يمكن أن تزهق بسبب هذه الأفعال، ولا سيما أن حوادث السير في ارتفاع، وازدياد في بشاعتها، وسوء مآلها.
من جانب آخر، فإن الاعتداء على النفس المحترمة، والاستهتار بقيمة الإنسان، يمثل تعديا صريحا على شرع الله - تعالى -. وعندما يتجاوز السائق السرعة المحددة، ويموت، فإن بعضا من أهل العلم المعتبرين، عدوا صنيعه هذا من باب الانتحار. - وكذلك - من أزهق روحا عمدا في حوادث السير، فعليه القصاص. فما حكم من يقود مركبته، وكأنه داخل إلى حلبة صراع، فيعرض نفسه، والآخرين إلى التهلكة، أو إعاقات مزمنة ؟، أفلا يعاقب - حينئذ - بما يتناسب، وجريمته ضمن دائرة التعزير ؟؛ من أجل تحقيق المصلحة العامة للدولة، ولأفراد المجتمع؛ حتى لو عوقب مرتكبه بالقتل تعزيرا لا حدا. فالقتل تعزيراً قد جاء استثناء من القاعدة، فلا يتوسع فيه، ولا يترك أمره إلى القاضي ككل العقوبات التعزيرية، بل يجب أن يعين ولي الأمر الجرائم التي يجوز فيها الحكم بالقتل وتلك ميزة انفردت بها الشريعة الإسلامية من يوم نزولها، فهي لا تسرف في عقوبة القتل، ولا تفرضها دون مقتضى. وهذا ما يؤكده قول - الشيخ - بكر أبو زيد - رحمه الله - في كتابه «الحدود، والتعزيرات عند ابن القيم» (ص/ 493)، وفيه: «يظهر من مباحث القتل تعزيرا على سبيل الإجمال، والتفصيل: أن القتل تعزيرا مشروع عند عامة الفقهاء، على التوسع عند البعض، والتضييق عند آخرين في قضايا معينة. وأن القول الصحيح الذي يتمشى مع مقاصد الشرع، وحماية مصالح الأمة، وحفظ الضروريات من أمر دينها، ودنياها : هو القول بجواز القتل تعزيرا حسب المصلحة، وعلى قدر الجريمة، إذا لم يندفع الفساد إلا به، على ما اختاره ابن القيم - رحمه الله تعالى -».
دعوني أذكركم، بأن مشكلة الحوادث المرورية من هذا النوع، تكمن في غياب قوانين رادعة لها، والتساهل في تطبيق أنظمة المرور، الأمر الذي أوجد فوضى عارمة في سلوك بعض السائقين، لا تخطئه عيوننا. وعلى الرغم من تفاؤل الناس بنظام ساهر، وما لمسناه من انخفاض ملحوظ في إحصاءات وفيات الحوادث المرورية، وهو وإن تأخر كثيرا، إلا أن يأتي متأخرا خير من ألا يأتي أبدا، لكنه حلّ ضيفا ثقيلا - خلال الأيام الماضية - دون أن يكون موجودا؛ لضبط مخالفات متجاوزي السرعة في كثير من الطرقات، ومنها على سبيل المثال : حادث «حي الياسمين». وهذا ما يجعلني أؤكد على ضرورة تضافر كل الجهود؛ لحماية رأس المال البشري، والاحتفاظ بالمظهر الحضاري في سلوكياته؛ لأن من يتجاوز أنظمة المرور، فهو يتجنى على نفسه، ثم على غيره. وعليه، فإن التعجيل بتطبيق العقوبات الصارمة في الدوائر الرقابية، وتحميل العابثين أرواح الأبرياء التبعات الجزائية، والأضرار النفسية، والاجتماعية، أصبح حقا مشروعا، فمن أمن العقوبة أساء الأدب.