حتى تصل (الأمة العربية).. إلى الدورة الـ(مائة والتسعين) من دورات المجلس التنفيذي لـ(منظمة) التربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، وإلى ذلك اليوم من شهر أكتوبر من عام 2012م.. حيث تم اعتماد يوم (الثامن عشر من ديسمبر) ليكون (يوماً عالمياً) للغة العربية، الذي دشنت (المنظمة)
أول احتفال به في مقرها الباريسي.. آنذاك، كانت قد سبقت ذلك جهود متصلة مضنية دؤوبة.. بدأت منذ خمسينيات القرن الماضي.. عندما أقرت (الجمعية العامة) للأمم المتحدة في الرابع من شهر ديسمبر من عام 1954م جواز (ترجمة!!) مقرراتها إلى اللغة العربية، على أن تدفع الدولة التي تطلبها.. تكاليف ترجمتها..؟!
ولكن.. وتحت الحضور العربي الناضج والكثيف، الذي كان في تلك الأيام وكأنه يعلن عن ميلاد أمة عربية جديدة إبان سنوات الخمسينات التي تلت.. اتخذت (اليونسكو) في عام 1960م قراراً يقضي باستخدام (اللغة العربية).. في المؤتمرات الإقليمية التي تُنظم في الدول الناطقة بـ(العربية)، وبترجمة الوثائق والمنشورات الأساسية الصادرة عنها.. إلى اللغة العربية، ثم تبعتها خطوة أكثر قيمة وأهمية.. عندما اعتمدت (اليونسكو) عام 1966م قراراً باستخدام (اللغة العربية) في أجهزتها الكبرى الثلاث (المؤتمر العام، والمجلس التنفيذي، وسكرتاريتها العامة) مع تأمين خدمات (الترجمة الفورية) لها.. من (العربية) إلى غيرها من لغات (اليونسكو)، لتُعتمد بعد ذلك عام 1968م.. كـ(لغة) عمل أساسية لدى (اليونسكو).
لكن القفزة الكبرى الأولى التي حققتها (اللغة العربية).. إنما كانت في سبتمبر من عام 1973م.. عندما تم اعتمادها كـ (لغة شفوية) خلال تلك الدورة من دورات الأمم المتحدة التي تعقد في الواحد والعشرين من سبتمبر في كل عام، لتتبعها بعد ثلاثة أشهر قفزتها الأكبر والأهم والأعظم.. عندما أصدرت (الجمعية العامة) للأمم المتحدة - وليس (منظمة اليونسكو) المعنية بالتربية والعلوم والثقافة والآداب والفنون والآثار - قرارها في الثامن عشر من شهر ديسمبر من عام (1973م) بـ (جعل اللغة العربية لغة رسمية للجمعية العامة وهيئاتها)، لتصبح اللغة «السادسة» المعمول بها في أروقة الأمم المتحدة وجميع منظماتها المتخصصة.. مع الإنجليزية والروسية والفرنسية والصينية والإسبانية.. جنباً لجنب وكتفاً لكتف؟ لتزهو (العربية) بهذا الاعتراف الأممي بها، الذي وضعها في مكانها ومكانتها.. كواحدة من أعظم لغات العالم: جلالاً وقدرة وجمالاً.
* * *
نعم.. كانت مسوغات اختيارها الثقافية والتاريخية لتكون إحدى لغات الأمم المتحدة كثيرة وعديدة.. فهي (قدسية) لأنها كانت الوعاء لكلمات الله جل وعلا في (تنزيله) الحكيم، وهي (شعائرية) لدى عدد من الكنائس المسيحية في الوطن العربي، وهي لغة الأعمال الدينية والفكرية اليهودية في العصور الوسطى.. قبل أن تتماسك (العبرية) ويتم (ترقيعها) بالعربية لتصبح لغة اليهود واليهودية، وهي لغة يتحدث بها أكثر من (422) مليون نسمة من أبناء الوطن العربي/ ومَن جاورهم في (الأحواز) وتركيا وتشاد ومالي والسنغال وأرتيريا.. كما تقول إحصاءات الأمم المتحدة في سبعينيات القرن الماضي.
لكن هذه المسوغات الدينية والتاريخية الكبرى على أهميتها وجدارتها.. لم تكن وحدها التي عجلت باختيار اللغة العربية لتكون لغة الأمم المتحدة «السادسة».. بعد ثمانية وعشرين عاماً من قيام المنظمة الأممية نفسها في (نيويورك)، ولكنه حضور الأمة العربية الفاعل والمؤتمر.. الحيوي والمدوي، وبريقها اللامع بأطياف (باندونغ) و(السويس) ورايات ثوار (الجزائر).. على الساحة السياسية والثقافية والعسكرية عالمياً.. هو الذي عجل بوصول لغتها (العربية) صاحبة القداسة والتاريخ والآداب والفنون لأن تكون اللغة (السادسة) التي تتحدث وتتعامل بها (منظمة الأمم المتحدة) وجمعيتها العامة ومجلس أمنها ومنظماتها الدولية الخمس عشرة، وهو الذي حمل منظمة (اليونسكو) فيما بعد ذلك بسنوات طويلة.. من انتهاء الصراع بين دول (العالم الحر) ودول (عدم الانحياز) الناهضة.. وفي ظل حرص مديريها العامين التزام (التوازن) بين ثقافات ولغات الأمم المتحدة الست، على أن يتخذ مجلسها التنفيذي في دورته الـ(190) في شهر أكتوبر من عام 2012م قراره - الذي أشرت إليه في مطلع هذا المقال - باعتبار يوم الثامن عشر من ديسمبر.. يوماً (عالمياً) للغة العربية، يجري الاحتفال به في كل عام.. نظراً لأنه تم في ذلك اليوم من عام 1973م اعتمادها - من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة - كـ(سادس) لغة من لغاتها إلى جانب الإنجليزية والفرنسية والروسية والصينية والإسبانية.
* * *
هكذا وصلت اللغة العربية في الثامن عشر من ديسمبر من عام 1973م.. بـ(حضور) وحيوية أمتها ومددها التاريخي الثقافي الأصيل.. لأن تكون اللغة الرسمية (السادسة) بين لغات المنظمة الدولية، بينما تم في أكتوبر من عام 2012م.. اعتماد ذلك اليوم ليكون (اليوم العالمي) للغة العربية.. مساواة وأسوة بالأيام العالمية لبقية اللغات الخمس التي تعتمدها (اليونسكو) من منظور العدالة والمساواة بين الثقافات واللغات، ومع (الفارق) بين اليومين.. إلا أنه لا يمكن الفصل بينهما، بقدر ما يتحتم الوصل بينهما، وهو ما يحملني مضطراً - رغم اختلاف حال الـ(وفاق) الذي كانت عليه الأمة في سبعينيات القرن الماضي.. وحال (خلافها) وتشتتها وتشرزمها الذي انتهت إليه منذ كارثة (كامب ديفيد) بداية إلى كارثة الأزمة السورية التدميرية الطاحنة نهاية.. وما بينهما - إلى القول.. إن اليوم (الثاني) كان نتيجة طبيعية حتمية لليوم (الأول)، فلولا اعتماد (اللغة العربية) كلغة (رسمية) سادسة لـ(الجمعية العامة للأمم المتحدة) في سبعينيات القرن الماضي.. لما اعتمدت (اليونسكو) في أكتوبر من عام 2012م: يوم (الثامن عشر من ديسمبر) ليكون اليوم العالمي للاحتفال الأول باللغة العربية.. في كل عام، بل وتدشن الاحتفال به في ذات العام..!!
* * *
وإذا كانت قد غابت عني - لأسباب لم أعد أذكرها - مفردات الاحتفال (الأول) بـ(اليوم العالمي) للغة العربية.. الذي جرى في الثامن عشر من ديسمبر 2012م بالمقر الباريسي لمنظمة (اليونسكو).. رغم سعادتي بحدوثه سياسياً، واحتفائي به ثقافياً، فقد حرصت - في المقابل - على متابعة ما سيكون عليه الاحتفال (الثاني) في الثامن عشر من ديسمبر الماضي.. عربياً ومحلياً، منذ أن بدأت تتسرب أخباره في الملاحق الثقافية التي تصدرها صحفنا اليومية الكبرى.. أسبوعياً بانتظام، بينما الخبر في مغزاه ومعناه سياسي في مقامه الأول.. وثقافي في مقامه الثاني وليس العكس.. متطلعاً لأن أجد احتفالية كبرى.. على مستوى المناسبة الضخمة، وعلى مستوى (الوطن العربي) وعواصمه الثقافية الكبرى.. يشعر بها ويتفاعل معها القاصي والداني، إلا أنني لم أجد ذلك الاحتفال الذي أبحث ويبحث عنه - أمثالي - عربياً.. ربما لانشغال (بيروت) ببيتها الداخلي، وانصراف (بغداد) و(دمشق) لمسايرة (الإسلام السياسي) أو لصده وحربه.. بعد أن اقتحم حياة الأمة بشهوة السلطة والسلطان وأن تظلل برايات القرآن.. ليأخذها إلى متاهات لا نهاية لها.. ووفاق مستحيل بين أجنحته لن يتحقق، أما عاصمة عواصم الثقافة العربية (القاهرة).. فرغم انشغالها في مكافحة إرهاب (الإخوان) وعتهه، إلا أنها استطاعت أن تقدم احتفالية وفق ظروفها السياسية الضاغطة.. لعل أبرزها إصدار الهيئة المصرية العامة للكتاب طبعة جديدة لأشهر وأهم معاجم اللغة العربية: معجم (لسان العرب) لابن منظور.. في تسعة مجلدات، لمن يطلبها أو يبحث عنها.. وإقامة ندوتها الثقافية الجميلة التي عقدت بقاعة (صلاح جاهين) بمكتبة القاهرة الكبرى - في 21 ديسمبر الماضي - عن (جماليات اللغة العربية في أدب نجيب محفوظ).. واحتفالية رائدة جامعات الوطن العربي (جامعة القاهرة) عن دور الأزهر في رعاية اللغة العربية والعناية بها والحفاظ عليها عبر التاريخ.. في السابع عشر من ذات الشهر (ديسمبر).
أما محلياً.. فقد سطع (مركز الملك عبدالله الدولي لخدمة اللغة العربية) من خلال استجابة رئيسه الفذ الدكتور خالد العنقري - وزير التعليم العالي -، وبلورة أمينه العام - الصديق الدكتور عبدالله الوشمي - لآلية الاحتفاء والاحتفال بهذا اليوم الكبير في حياة الأمة.. وقد استهل الحديث عنها أجمل استهلال عندما قال قبيل أربعة أيام من يوم الاحتفال بـ (أن اليوم العالمي للغة العربية.. مناسبة يجتمع فيها الموضوع الواحد للأمة الواحدة في مخاطبتها لمختلف الأمم)، ليعلن بعدها عن ثلاثية آلية المركز في الاحتفاء بهذا اليوم العزيز على الأمة وتاريخها: (التحفيز والمشاركة والبرنامج العلمي).
ومع البيروقراطية الحكومية التي شابت بعض هذه الآلية عن اعتزام التحدث إلى (جميع) وزارات الدولة لحثها على المشاركة.. فقد كان الأوفق في ذلك اختصار ذلك التوجه.. على وزارات ومؤسسات بعينها كـ(التعليم العالي) والتربية والتعليم والخارجية والمعهد الدبلوماسي والجامعات الحكومية والأهلية والأندية الأدبية وجمعيات الثقافة والفنون والمسرحيين والتشكيليين.. وليس المؤسسات والشركات أو الوزارات غير المعنية أصلاً بهذا اليوم، لتلمع في تلك الآلية برامج الملحقيات الثقافية في كل من النمسا وماليزيا وتركيا، حيث تم - في الأخيرة - افتتاح (معمل اللغة العربية) الذي أسسه المركز باسم المملكة العربية السعودية في جامعة (اسطنبول)، إلى جانب الندوة الشبابية عن اللغة (الهجين) أو ما يسمى بـ(العربيزي) في وسائل التواصل الحديثة، إلى جانب فعاليات اختتام (شهر) اللغة العربية في الصين بمشاركة ثلاثين جامعة صينية.
أما على مستوى الأندية الأدبية.. فقد قدم أكبرها في جدة.. ندوة أكاديمية يتيمة باردة عن اللغة العربية يصلح أن تقدم لطلبة السنة الأولى في كلية اللغة العربية.. وليس في مناسبة ضخمة كهذه، ولم يكن حال بقية الأندية الأدبية.. بأفضل مما فعله نادي جدة الأدبي..!!
* * *
ومع التقدير للجهود التي بذلت للاحتفاء والاحتفال بـ(اليوم العالمي) للغة العربية.. قُطرياً، والتي لا يصح الاستغناء عنها في الاحتفالات المستقبلية بهذا اليوم، إلا أن الأهم من بذل تلك الجهود داخل البيت العربي.. أن يبذل مثلها وأعلى منها في تلك المدن والعواصم الفاعلة التي اتخذت قراريها: في السبعينيات بـ(اعتماد) اللغة العربية.. كلغة سادسة في (الأمم المتحدة)، وفي مطلع الألفية الثالثة بـ(اعتماد) الثامن عشر من ديسمبر يوماً (عالمياً) للاحتفال بـ(اللغة العربية).. وأعني بها (نيويورك) و(جنيف) و(باريس) حيث مقر الأمم المتحدة في الأولى.. ومقر منظماتها في الثانية.. ومقر (منظمتها) للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) في الثالثة، بتقديم أفضل ما أنتجته الأمة العربية فكراً وأدباً ومسرحاً وغناءً وتشكيلاً بلغة عربية فصيحة مؤثرة.. من خلال ترجمتها - عبر مترجمين أكفاء - إلى بقية لغات الأمم المتحدة الخمس، لنقول للعالم كله: هذه لغتنا العربية الجميلة التي اعتمدتموها ذات يوم لغة من لغات الأمم المتحدة.. واعتمدتم الاحتفال بيومها العالمي ذات يوم آخر.
ولكن هذا الدور وهذه المسؤولية الدولية.. ما كان يصح لأحد أن يتقدم لتحملها سوى (الجامعة العربية) وأمينها، إلا أن (جامعة) هذه الأيام.. كـ(أمين) هذه الأيام.. كـ(أمة) هذه الأيام غائبة أو مغيبة!!