أصبح الإرهاب تجارة عالمية رائجة ليس فقط من أجل محاربته بل أيضا من أجل الادعاء بمحاربته. فحروب محاربة الإرهاب هي نسق حروب جديد أتت به العولمة السياسية التي تنتقص من السيادة الوطنية للدول الضعيفة، وأصبح مسوغاً سياسياً للدول القوية للتدخل في الدول الأضعف.
وكان من أهم مبادئ العولمة القول بجواز انتقاص السيادة الوطنية للدول من أجل حماية حقوق عالمية كحقوق الإنسان، أو لحماية الكون من الظواهر المناخية التي تؤثر على العالم خارج حدود الدول المستهدفة الوطنية. غير أن هذه الحجج لم تكن من القوة لتقنع شعوب الدول بضرورة تدخل دولها في شئون دول أخرى، كما أن الحكومات في الدول المستهدفة سارعت لتحسين وضع حقوق الإنسان لديها ولو صوريًا، فظهرت قضية الإرهاب وكانت مؤاتية جداً فتوقف الكلام عن الظواهر المناخية، وخف الكلام عن حقوق الإنسان، وبدأت الاتهامات تترى عن ممارسة الإرهاب في كل مكان.
ولم يستهلك مصطلح سياسي في العقود الثلاثة الماضية مثل مصطلح محاربة الإرهاب، واستثمرت الولايات المتحدة وأوربا مئات ملايين الدولارات إعلامياً لتأصيله كمصطلح مستهجن يصبح معه التدخل العسكري مبررا. ومصطلح إرهاب غير محدد المعالم لكن من أهم معالمه استخدام العنف بشكل عشوائي ضد أهداف مدنية من أجل قضايا عقدية أو سياسية، وهو من حيث كونه مصطلحا قابلا للتعريف ولو بشكل غامض، لكن تعميمه على جهة أو مجموعة ظل أكثر غموضا وأكثر مرونة. فلم تطلق النرويج مثلاً على مواطنها اندرياس بيرفيك الذي قتل 92 مواطناً وسائحاً في قلب أوسلو في عام 2011م لقب إرهابي، لأنه لا يمكن أن يكون الإرهاب سمة لنرويجي، لكن هذه التهمة وجهت لبريطانيين مسلمين ثبتت فيما بعد براءتهم. فلا أحد يحتاج لمبرر لتدخل في النرويج مثلما تكون هناك حاجة للتدخل الدائم في باكستان، وأفغانستان واليمن وغيرها.
وبعد أن أصبح الإرهاب سببا مؤاتياً للتدخل في شئون الغير أصبح لزاماً إيجاده عند الحاجة فيما لو كان غائباً، ثم تطور الأمر بأن تجند أو تدعم بعض الدول مجموعات بعينها عبر استخباراتها في دول معينة من أجل استهدافها تمهيداً للتدخل فيها، أو لتحقيق أهداف سياسية أخرى مثل الضغط السياسي عليها. فالإرهاب الذي بدأ بعد حروب أفغانستان، أصبح بعد 11 سبتمبر ظاهرة عالمية وأصبح جزءاً من المفهوم السياسي لمعظم قضايا الدول العربية والإسلامية. وأصبح دعم الإرهاب تهمة مؤاتية تطلق على الخصوم لانتقاص حقوقهم، أطلقها القذافي ضد خصومه، ومرسي ضد المتظاهرين، والسيسي ضد جماعة مرسي وهلم جرا، واليوم تستخدم في سوريا والعراق بشكل انتهازي واضح.
و لدينا نحن العرب الرقم القياسي لأطول مفاوضات في التاريخ، وهي الحوار الإسرائيلي الفلسطيني الذي استمر لأكثر من ثلاثين عاما بين الطرفين دونما طائل لأنه كل ما ازداد الضغط على إسرائيل للإيفاء بالتزاماتها أتى فلسطينيون مشبهون بأعمال عنف صنفت على أنها إرهابية فتملصت إسرائيل من التزاماتها. وقد قضمت إسرائيل الأرض الفلسطينية بحجة أهميتها لأمنها القومي ولحربها ضد الإرهاب الفلسطيني.
ونشهد اليوم وضعاً عبثياً مشابهاً في سوريا غير أن من يوظف قضية الإرهاب هو روسيا في هذه المرة وليس الغرب. فجمهورية روسيا الاتحادية ظهرت وكـأنها تكتشف كرامتها القومية فجأة في سوريا بعد أن تخلى عن هذه الكرامة قورباتشوف، و مرغها يلتسن في الوحل. ويبدو أن روسيا استعادت ثقتها في نفسها بين عشية وضحاها فرمت بثقلها إلى جانب ديكتاتور جزار يمارس قتل شعبه بشكل جماعي وبأبشع الأساليب. وقد تبنت روسيا كل الدعاية التي سبقت وتبنتها الإمبراطورية الإعلامية الأمريكية فيما أطلقت عليه الحرب «على الإرهاب»، فادعت هي أنها تحارب الإرهاب!! أي تحارب، كما فعل الأمريكان «قضية» لا عدو حقيقي وتلبس هذه القضية كتهمة لأي جهة تعترض مصالحها. بينما يواصل النظام إرهاب الأطفال والشيوخ والنساء الذين تحرقهم أسلحة الدمار الشامل للجيش السوري، حيث قتل حتى الآن 140 ألف مواطن سوري بينهم 7000 ألاف طفل حسب المعارضة، يصنفون في الدعاية السورية كإرهابيين. ويعرف السياسيون أن من حيل التبرير المعتادة للأعمال الهمجية تبرير فعل همجي بكون جهة أخرى سبق ومارست عملاً مشابهاً له، أو بحجة منع ما هو أخطر منه، فروسيا وسوريا تبرران ما تقومان به من أعمال وحشية بما سبق وأن ارتكبت أمريكا مثلها.
الأمريكيون كشعب فطنوا إلى أن حرب الإرهاب التي تبنتها حكومتهم في الخارج برفضها أي حوار أو مفوضات مع أي طرف كان بمنطق من ليس معي فهو حتما ضدي، أنها حرب ذات وجهين، وأن لها صدى داخلي، وهي كما يقول العرب، لك واسمعي ياجارتي، فالحرب على الإرهاب داخل أمريكا كانت بالقوة ذاتها وبالمنطق ذاته الذي شنت بسببه الحروب في الخارج. فأصبح الخيار أمام المواطن الأمريكي اليوم ولأول مرة في تاريخه أما مع الحكومة أو ضدها، وأصبح يخاف الشرطي في الشارع كما يخافه الروسي، والتركي والعربي. وأصبحت كثير من مبادئ إصلاحات الدستور الأمريكي العشرة حبراً على ورق، وظهرت فضائح تجسس مخيفة على جميع المواطنين كما يمارس في العالم الثالث ولا يجرؤ مواطن على الاعتراض على ذلك.
وجزء كبير من استعراض النفوذ الذي تمارسه روسيا في سوريا موجه أيضاً للداخل الروسي، فالداخل الروسي يحتاج لتسوية تضمن الإطباق البوليسي على السلطة بشكل لا يسمح بأي تحد مستقبلي لإمبراطور روسيا الجديد «بوتين الأول» من أي قوى داخلية. وهذا يعد من أهم وأخطر استثمارات العولمة الجيوسياسية. فخطاب روسيا الحقيقي في سوريا هو أنه في عالم ما بعد الحرب الباردة الغاية تبرر الوسيلة والعنف المدمر متاح عند الحاجة. فالروس ينظرون لموقف حكومتهم ومساندتها للذبح الوحشي للأبرياء في سوريا ويتخيلون أنفسهم، ويرون حكومتهم تبرر ذلك بمحاربة الإرهاب وينظرون لأنفسهم كمتهمين به محتملين في المستقبل ينتظرهم المصير نفسه. فسياسة روسيا عين على سوريا وعين على أوكرانيا وغيرها من دول الاتحاد السوفيتي السابق التي تشهد ربيع مشابه للربيع الربيع. ولذلك فروسيا تحاول إطالة الأزمة في سوريا لأطول أمد وتستغل في ذلك انسحاب الولايات المتحدة منها، أما الحكومة الرسمية السورية فلم تعد تمتلك أي سلطة على سياستها الخارجية أو الداخلية وأصبحت هي بدورها تردد الدعاية ذاتها وتعتبر المواطنين السوريين الثائرين على سلطتها إرهابيين، وانحصر مهامها في إطالة أمد الأزمة باستخدام العنف.
أما المعارضة السورية فبدأت تحس بضعف موقفها العسكري والتفاوضي بعد اتهامها بالإرهاب، وبعد انسحاب الغرب وأمريكا من دعمها بحجج واهية لا تختلف كثيرا عن حجج روسيا في إطالة أمد الحرب بحجة مكافحة الإرهاب. وانعكس هذا الضعف في ظهور الاختلافات بين بعض أطرافها وتلويح البعض الآخر بالرغبة في حلول وسط مع النظام. فلا مبرر خارجي لروسيا في سياستها داخل سوريا، وهي ولو كسب النظام السوري الحرب وسيطرت عليه، خسرت أنظمة أهم وأكبر في المنطقة من النظام السوري الذي سيخرج مفلساً ومحطما غير المبرر الداخلي. وروسيا ليست بحاجة لإبراز أو نشر قواتها في الخارج كما سبق وصرح العديد من قادتها العسكريين. فالأرجح أن روسيا تحاول كسب الوقت لتعزيز قبضة الحزب الحاكم في الداخل. ومن هنا نستطيع تتبع نسق ساد كثيرا من الدول بعد انتهاء الحرب الباردة وانتصار الرأسمالية، وتحول الدول الاشتراكية إلى دول تسيطر عليها أحزاب قومية رأسمالية تسعى للسيطرة على شعوبها بوسائل قمعية ورثتها من النظام الشمولي الشيوعي. الرأسماليون الجدد اتبعوا أساليب جديدة في الحكم هدفها السيطرة على تركة الأنظمة المنهارة، ويتضح ذلك في كثير من الدول الشيوعية التي تحولت للرأسمالية مثل أذربيجان، كازاخستان، كوبا، أوكرانيا, وأخيرا روسيا. فروسيا نظام غير مستقر في الداخل ويمارس الهروب للخارج.