يبرز منهج العلماء الرشيد في التوفيق بين الفقه، وفهم الواقع، من أجل أن تُبنى عليه الأحكام الصحيحة، مراعاة للمصلحة، أو مجافاة للمفسدة، باعتباره يندرج في وعاء تحقيق المناط، سواء أطلقنا عليه لفظ: «السياسة الشرعية»، أو «الاستصلاح»، أو «الاستحسان». ففقه الواقع مع مراعاة واقع متقلب، ومتوقع مترقب، ناشئ عن تحقيق المناط،
الدائر مع المصالح، والمفاسد، شريطة ألا يخل بمصلحة شرعية معتبرة، أو يؤدي إلى مفسدة أعظم مطلوبة الدرء شرعاً، -وعندئذ- لا يحق للعالم الشرعي، أن يصدر فتوى مجردة عن واقعه الذي يعيشه؛ لتحقيق ما استطاع من متطلبات، بل والعمل على حفظ الإمكانات، والمقدرات، والكليات.
عند التشخيص الدقيق، فإن معرفة الأحكام الفقهية، أمر يسير في التحصيل، بخلاف تطبيقها على الوقائع، فإنه أمر عسير. والمعادلة تقتضي: «قيام الأسباب، وانتفاء الموانع». وتلك مهمة لا يمارسها إلا الراسخون من أهل العلم تحريماً -وتحليلاً-، إضافة إلى التصرفات الولائية، التي يمارسها الحاكم اجتهاداً وتنزيلاً.
إن الاعتناء بفقه الواقع، يتطلب الاعتناء بفقه أحوال الناس، والعوامل المؤثرة فيه، والعمل على إصلاحه.. وهذا ما أكد عليه معالي الشيخ عبدالله بن بيه -حفظه الله-، حين قال: «إنَّ هذه الأمة بحاجة ماسة، بل في ضرورة حاقة؛ لمراجعة مضامين شريعتها في كليها، وجزئيها، لتعيش زمانها في يسر من أمرها، وسلاسة في سيرها، في مزاوجة بين مراعاة المصالح الحقة، ونصوص الوحي الأزلية.
إنَّ المراجعة ليست مرادفة للتراجع، وإن التسهيل ليس مرادفاً للتساهل، وإن التنزيل ليس مرادفاً للتنازل، إنه ترتيب للأحكام على أحوال المحكوم عليهم؛ وهم المكلفون الذين خاطبهم الشارع خطاباً كلياً مبشراً، وميسراً، ومنبهاً، ومنوهاً، بأن الشريعة الخاتمة لا تريد إعناتهم، وأن تلك إحدى ميزاتها البارزة، وصفاتها الباهرة»، وعندما تحدث عن فقه المآلات، قال عنه: «موازنة بين مصلحتين، إحداهما أرجح، إحداهما مستقبلية، والأخرى حاضرة، موازنة بين مفسدتين، إحداهما مستقبلية، والأخرى حاضرة.
ففقه المآل، هو عبارة عن توازن، لكنه توازن بين حاضر، وبين مستقبل، هذا الذي نسميه فقه المآل، والفقيه عليه أن يعتمد على الأدوات، التي بإمكانها أن تكتشف هذا المستقبل، عليه أن يعرف هذا الواقع، حتى يعرف المتوقع، لأن المتوقع، هو في حقيقته مآل للواقع في أحد توجهاته، لأن الذريعة عبارة عن وسيلة يتوسل بها إلى شيء، أو يتوصل بها إلى شيء».
إن الجهل بفقه الواقع، أحد أسباب تأخر الأمة، وذلك باتخاذ القرارات الخاطئة المبنية على تصورات غير سليمة، أفقدتنا الانسجام الضروري بين الضمير الديني، والأخلاقي، والواقع الإنساني. ولذا لا غرابة، ونحن نعيش أحداثاً جسيمة في عالمنا الإسلامي، ليست باعتبار تأثيرها علينا فقط، بل على العالم أجمعه، أن نشهد من يضع الأحكام الشرعية، والفتاوى الجاهزة في غير موضعها، أو أن يطلقها دون تقييد، وهذا ما أفضى مع الأسف إلى فوات مصالح مرجوة، والولوج في مفاسد محققة، بسبب الوقوع في دائرة الجدلية بين الواقع، والمتوقع بتقلباته وغلباته، وبين الدليل الشرعي بشقيه الكلي والجزئي.
الأمر الذي يجعلنا نحذر كل من يقحم نفسه في واقع لا يعرفه، وعن مكان لم يعايشه، من إطلاق الأحكام العامة، دون مراعاة الواقع المتقلب، والمتوقع المترقب، حتى لا تُطلق التصورات الذهنية أحكاماً، نتيجة معلومات ناقصة، أو مشوهة، أو مغلوطة، أو بسبب غلبة العواطف الجياشة في مثل هذه الظروف التي تعيشها الأمة الإسلامية اليوم.