شدَّد خبير نفطي على أهمية وضرورة الإسراع في إيجاد حلول دائمة لمعالجة مشكلة الاستهلاك المفرط للطاقة في المملكة وتزايده يومًا بعد يوم، الذي يشكّل تهديدًا للصادرات النفطية مستقبلاً كمنتج قابل للنفاذ.
وقال رئيس مركز السياسات النفطية والتوقعات الإستراتيجية الدكتور راشد أبانمي لـ»لجزيرة»: إذا أردنا حلّ هذه المعضلة، لا بُدَّ أولاً من الاعتراف بوجودها علنًا، ومن ثمَّ تجزئة المعضلة تلك إلى مكوناتها الأساسيَّة ووضعها على ثلاثة جوانب؛ يتمثَّل الأول منها في الجانب السياسي الذي يملك القرار وينظم سياسة دعم أسعار الطاقة محليًّا خصوصًا لشرائح الاستخدام العالية كالشركات والقطاعات الحكوميَّة، ويتمثَّل الجزء الثاني في الجانب الاقتصادي الذي يعمل ويحدد خطورة هذا الاستهلاك على الصادرات النفطية وإيجاد الحلول لها، أما الجانب الثالث فيتمثَّل في الجوانب الفنيَّة للمصانع والشركات وجهات الاستهلاك والتوجُّه لكيفية إيجاد الآليات لدى تلك الشركات للحدِّ من استهلاك الطاقة، وإيجاد طرق تخدم الغرض ذاته.
وبيَّن الدكتور أبانمي، أن الاستهلاك المتزايد للطاقة محليًّا يمثِّل قضية متشعبة يجب ألا يكون التعامل معها باقتراح حلول آنية فقط لا تتعدى كونها شكلية كما يعتقد البعض، بل إنها تكمن أولاً في إيمان صنّاع القرار وعلى أعلى مستوى ومعه المجتمع بوجود قضيه مصيرية خطيرة تُهدِّد الأمن الاقتصادي الوطني، ومن هذا المنطلق وكوننا جزءًا من هذا العالم وليس لدينا خصوصية في هذا المجال كما يحلو للبعض بالتشدّق به، فلا بُدَّ لنا من الاستفادة من التجارب العالميَّة والكيفية المتبعة في حلِّ مثل هذه القضايا المتشعبة، مؤكِّدًا أن كل سلعة مدعومة لا تعين على الإرشاد، بل تعين على التبذير والاستهلاك المفرط، مبينًا أنّه من التجارب العالميَّة في السلع المدعومة لا يستفاد من الدعم إلا أقل من 20 في المئة، أيّ أن كل دولار دعم لسلعة ما مثلاً لا يستفيد منها المستهدف للمساعدة أيّ المستهلك إلا 20 سنتًا، أما الثمانون سنتًا فتستنفذ قبل وصولها للمستهلك بدءًا بالإجراءات الإدارية (البيروقراطية) مرورًا بالمتداولين من التجار إلى أن تصل للمستهلك النهائي بعد تكلفة الدَّولة 80 في المئة لأطراف يستهلكون الدعم، حيث أثبتت تجارب العالم الاشتراكي المبني على الدعم الفشل الذريع في هذا المجال، بل كان أحد الأسباب المهمة في ترهل وضعف، ثمَّ انهيار أكبر الحضارات المعاصرة الاتحاد السوفييتي ومنظومته الشرق أوروبيَّة، وبالنظر إلى المملكة التي تنتهج الاقتصاد الحر، فإنَّ دعمها الكبير والشامل غير المقنن للنفط والغاز والمشتقات النفطية للجميع وخصوصًا الشرائح الكبيرة هو أمر يجب إعادة النظر فيه، لاسيما أن الأمر يزداد تعقيدًا وخطورة كون أن المملكة تعتمد اعتمادًا شبه كلي في إيراداتها الماليَّة من تصدير وبيع النفط للخارج.
وقال أبانمي: إن الدعم الحكومي للطاقة يتجاوز مئات المليارات، وفي ظلِّ عدم الشفافية في هذا المجال إلا أنّه وبعملية حسابية بسيطة بين فارق السعر الدولي والسعر المحلي نرى أن التكلفة عالية جدًا وبمردود متدنٍّ جدًا، فالاستهلاك المحلي يبلغ أربعة ملايين بترول مكافئ يوميًّا بما في ذلك بترول خام ومشتقاته والغاز ومشتقاته، أيّ أنّه بالسعر العالمي (4 ملايين برميل *100 دولار) أيّ 400 مليون دولار، ويباع بالسعر المحلي بين 6 و10دولارات للبرميل أيّ بمبلغ لا يتجاوز وفي أحسن تقدير أربعين مليون دولار يوميًا، وكما ترى الفرق الهائل والمخيف الذي يبلغ نحو 300 مليون دولار يوميًا، وحسب التقارير فإنّ الاستهلاك المحلي للطاقة يرتفع بمعدل 8 في المئة وهو الأعلى في العالم على الإطلاق، وإذا استمر هذا الاستهلاك على هذا المنوال وعلى هذه الوتيرة فسيبلغ استهلاك المملكة المحلي خلال 20 عامًا فقط نحو ثمانية ونصف مليون برميل يوميًا، ومن هنا نرى أن الواجب يحتم علينا إعلان استنفار وطني شامل وفوري للحد من هذا الخطر المحدق والشروع بوضع خطة وطنيَّة وتحقيقها على مدى قصير ومتوسط وبعيد، والعمل بشكل فوري على تطوير أنظمة المواصلات العمومية وتنظيمها لجعلها أقل تكلفة وتخصيص طرقات للنقل العام، الذي سيوفر بدائل ملائمة تجعل الناس أمام خيار التخلي عن سيَّاراتهم الخاصَّة، التي ستكون أكثر كلفة من تلك البدائل التي تتوافر في أنظمة النقل العام وخدماته، والبدء في إنشاء مشروع وطني للنقل المدرسي للجميع، كما أنّه يتوجب كذلك وضع رسم تنمية موارد مواصلات على رخص تسيير السيَّارات وفقًا لهيكل متدرج طبقًا لموديل السيارة ومعدل استهلاكها للوقود للحدِّ من انتشار السيَّارات القديمة أو السيَّارات ذات الاستهلاك العالي للوقود، كذلك يجب تخفيض الرسوم الجمركية أو إلغاؤها على السيَّارات (الهجينة - الهايبرد) التي تعمل على الكهرباء والبنزين، إلى جانب منع استخدام السيَّارات الحكوميَّة ذات الدفع الرباعي وشطب السيَّارات التي يزيد عمرها على 20 عامًا والسيَّارات ذات السعة التي يزيد حجمها على (3000 سي سي) بهدف توفير كلفة استخدام البنزين، وتنظيم صارم لاستخدام السيَّارات الحكوميَّة في العمل الرسمي ومراقبة ومتابعة حركة السيَّارات الحكوميَّة وإلغاء كروت المحروقات المجانية للسيَّارات الحكوميَّة، الأمر الذي يسهم في ترشيد وضبط الاستهلاك المفرط وغير المسؤول.
وأكَّد أبانمي، ضرورة الإسراع في إيجاد جهاز رقابي فعال، يراقب تفعيل الإجراءات المتعلّقة بالنفط ومشتقاته التي تتخذها الحكومة على نفسها وشركات المنافع الأخرى المدعومة منذ عقود من الزمن، وذلك لغرض الإشراف ومراقبة تحسين كفاءة الطاقة لتلك الشرائح الكبيرة، ومن خلال البدء التدريجي بإلغاء الدعم الحكومي للوقود عن الشركات كشركة الكهرباء ومؤسسة تحلية المياه.
وأضاف: عدم مراقبة هذا الدعم المقدم من قبل الدَّولة للمشتقات البترولية، سيخلق مشكلات أمنيَّة واجتماعيَّة، وبالفعل فلقد شجع عصابات التهريب للدول المجاورة، وذلك للاستفادة من أسعار الطاقة المدعومة، فهناك تجارب فعّالة استخدمتها العديد من الدول وبالإمكان الاستفادة منها، وعلى سبيل المثال تقدم أمريكا برنامجًا غير معلوم للجميع لدعم المزارعين وتوفير الوقود المدعوم لهم، وهو دعم يوصف بالدعم الذكي، حيث يعملون على توفير الوقود للمزارعين كل حسب احتياجه، ولكن هذا الوقود يضاف عليه مادة ملونة يجعله يختلف من ناحية اللون عن الوقود التجاري لسهولة الكشف عليه، فإذا تَمَّ بيعه أو استغلاله يتم مخالفة المستفيد منه وتغريمه بنحو 10آلاف دولار وهي تكلفة كبيرة جدًا تجعل المستفيدين لا يبحثون عن هذا الوقود حتَّى لو رخص ثمنه، كذلك هناك طرق وتجارب عديدة لا يمكن حصرها للحدِّ من استغلال الطاقة المدعومة، إلى جانب الترشيد في استهلاكها.
هذا على المدى القصير، وعلى المدى المتوسط فيجب الإسراع بعملية توحيد أسعار المنتجات البترولية في دول الخليج العربي، التي إذا ما تمت، فإنَّها ستوفر نحو 30 في المئة من إجمالي الاستهلاك في السعوديَّة الذي يتم تهريبه وتسريبه إلى دول مجاورة أعلى سعرًا بدافع إغراء فارق السعر.
ويرى أبانمي، أن مثل هذا القرار لا يمكن تطبيقه إلا بعد دخول مشروعات وسائل النقل العام المختلفة في كلِّ دول المجلس حيز الخدمة، نظرًا لأن المستهلك في أغلب دول المجلس يعتمد اليوم على وسيلة النقل الخاصَّة، مشيرًا إلى التفاوت الكبير في أسعار البنزين والديزل، حيث يتمتعان بدعم كبير في سوقي السعوديَّة وقطر اللذين يعدان من بين أقل الأسعار في مختلف دول العالم، وبين سعرهما في الإمارات الذي يقترب من الأسعار العالميَّة.