أحدث القرار الأخير الذي اتخذته وزارة التربية والتَّعليم بإعادة العمل بنظام الامتحانات في المرحلة الابتدائية والتخلي عن نظام التقويم المستمر، أحدث صدى يغلب عليه الرضا والاقتناع بإيجابيته وخصوصًا بين أولياء الأمور الذين كانوا منزعجين من البعد الشاسع بين نتائج التقويم وبين.....
..... ما يلاحظونه على أطفالهم من مظاهر التأخر التحصيلي. لكن الانزعاج كان يصيب أيْضًا المعلمين في المرحلة المتوسطة التي يغلب فيها الجانب المعرفي؛ إِذْ يلاحظ المعلمون رداءة مستوى الكثير من طلابهم في الأساسيات المعرفية والمهارية التي يفترض أن يكونوا تعلموها وأتقنوها في المرحلة الابتدائية.
إن هذا الضعف ينتقل مع الطلاب إلى المرحلة المتوسطة ومنها إلى المرحلة الثانوية التي عندها يفتضح ضعف التَّعليم العام بأسره، حيث لا يفوز بمقعد مرغوب في الجامعة إلا من تخطى سباق الحواجز من معدل عام واختبار تحصيلي واختبار قياس ومقابلات، ثمَّ الرضا أخيرًا بأي كلية - ولو طال السفر - أو أيّ كلية متوسطة أو معهد.
هل أسلوب الامتحانات أم أسلوب التقويم المستمر أفضل في تقويم الطالب وتحسين مستواه وفي تقويم أداء المعلم؟ وهل القرار في حد ذاته إستراتيجي ومؤثِّر في تعديل مسيرة التَّعليم؟ مثل هذه التساؤلات يختص بالإجابة عليها خبراء التَّعليم ودعاة إصلاحه الذين لديهم من الرؤى والأفكار الثاقبة حول مشكلات التَّعليم ومن إدراك أسبابها ومن الإلمام بتجارب الدول المتقدِّمة في التَّعليم ما يكفي لتصويب المسيرة التعليميَّة ورفع مستوى التَّعليم.
وقد بذلت محاولات للإصلاح من قبل - خاصة في عهد تولى الدكتور محمد الرشيد -رحمه الله- مسؤولية التَّعليم، لكنها قوبلت بمقاومة الرافضين للتغيير.
ولأن التركة المتراكمة عبر تاريخ التَّعليم الطويل ثقيلة، فإنَّها تحتاج إلى رافعة قوية ترفعها، لكي يبنى البانى على أساس جديد، لا على كتل من الركام القديم.
أما أولياء الأمور فإنَّهم - بخلاف الخبراء - يبعدون عن التفاصيل وينظرون إلى الظاهر من الأمور، فيصدرون أحكامهم بسهولة أو يطلقون العنان لتطلعاتهم.
ولأنى منهم سأطلق لنفسى العنان في إبداء الملاحظات التالية:
- لا بد أن يعترف أولياء الأمور أن الدور التربوي للبيت لم يعد كافيًا، لانشغال الوالدين (بالعمل أو مشاهدة التلفزيون أو غير ذلك)، ولانشغال الأطفال (باللهو مع الأجهزة الإلكترونية أو غير ذلك)، وأن عبئًا كبيرًا من الدور التربوي يقع على عاتق المرحلة الابتدائية - ولا سيما من السنة الأولى حتَّى الرابعة.
هذا الدور يقوم به معلمون ومعلمات - وليس آباء وأمَّهات، أيّ تنقصه عاطفة الوالدين- من خلال العملية التعليميَّة.
ولكي ينجح الدور التربوي للمعلم أو المعلمة، لا بد من توافر عاملين أساسيين: الأول إشاعة الجو الأسري في البيئة المدرسية، من خلال الاهتمام بصحة الطلاب وغذائهم ونظافتهم، وزيادة النشاط الحركي بالرياضة والنشاط اللاصفي بتشجيع الهوايات والمسابقات ومنح الجوائز والمكافآت المعنوية وإضفاء الطابع الترفيهي المحفز على هذه النشاطات وتحويل عدد من الحصص الدراسية لصالحها.
ويتم تطوير هذه النشاطات عن طريق التدريب المتواصل والمتابعة من المشرفين على تلك الأنشطة.
والعامل الثانى هو أن تتم ملاحظة التطوّر النفسي والذهني للطلاب بزيادة إعداد الاختصاصيين النفسيين أو الاجتماعيين أو إلحاق بعض التربويين ببرامج للإرشاد النفسي، وتكثيف التعاون مع الوالدين من خلال اللقاءات المنتظمة والمواظبة على التواصل الكتابي مع الأسرة لإطلاعهم على أحوال أطفالهم.
إن من الأَهمِّيّة بمكان العمل على تحسين (أو تدجين) بيئة المدرسة، بحيث تكون بيئة تربويَّة.
- بصرف النظر عن أيّ الأسلوبين أفضل للتقويم - الامتحانات أو التقويم المستمر - فإن المهم هو تمكّن الطالب من المستوى التحصيلي المستهدف واكتساب المهارات العقلية والعملية المناسبة لعمره - والتيقّن من ذلك.
هذا التيقّن هو بيت القصيد.
فلا يكفي أن يكون المعلم قد ألقى الدرس ولقّن الطلاب حفظه، بل لا بد أن يكون كل طالب قادرًا على التعبير شفهيا أو عمليًا (حسب نوع المادّة) عمَّا فهمه - وليس عمَّا حفظه تلقينا.
هذه مهمة المعلم المخلص المدرِّب، وهي مدار التقويم.
ومن هنا تتجلَّى أهمية الدور التربوي للمرحلة الابتدائية واستمراره وتدجين البيئة المدرسية. فإنها في الواقع تخصب التربة التي تنمو فيها قدرات الطالب وتجعله أكثر قبولاً وفهمًا وتمثلاً لما يتعلمه في الجانب المعرفي، وأكثر تفاعلاً ومشاركة مع معلميه وزملائه في التدريب على مهارات التفكير وتطبيق ما تعلموه، بحيث يؤهله ما اكتسب من مهارات معرفيه إلى اكتساب مهارات أعلى.
وهكذا ينمو التراكم المعرفي مع النمو الجسماني والذهني للطلاب ويزيح من مسيرتنا التعليميَّة ركام الجهل.
- على أن الوصول بالطالب إلى ذلك المستوى المهاري المستهدف يتطلب وقتًا من الطالب ومن المعلم.
وهذا الوقت لن يكون متاحًا إلا بالتخلص من حشو المناهج بالكثير من المعلومات أو المحفوظات التي يفرض على الطلاب مذاكرتها أو حفظها مع كونها غير ماثلة في واقعهم، مثل بعض المعلومات الفقهية أو الجغرافية أو اللغوية والأدبيَّة؛ أو هي غير ضرورية للمادة المقررة نفسها، بل تسبب تزاحمًا في ذهن الطالب يعطل استيعابها مثل ما نجده في بعض المقرَّرات الدينيَّة والعربيَّة والاجتماعيَّة والطبيعيَّة، بينما يتم إهمال كتب النشاط التي تحفز على التفاعل وتنمى الذكاء.
- يَرَى أولياء الأمور أن الحديث عن أهمية التَّعليم الابتدائي عقيم من دون تقدير دور المعلمين والمعلمات، لأنهم يتحملون العبء الأكبر، وهو القيام بدور المربى والمعلم في آن.
على أن هذا التقدير ينبغى ألا ينطلق من الصورة المثالية التي نتخيلها عن(المعلم)، بل يجب أن تنطلق من الواقع الملموس.
فلدينا ما يقارب ستمائة ألف معلم ومعلمة في التَّعليم العام.
ومهما قيل عن مهاراتهم التربوية وحبهم أو عزوف بعضهم عن المهنة، فإنَّه لا يمكن إحلال هذا الجيش العرمرم من هيئة التَّعليم بمن هو أكفأ منهم.
ولكن يمكن العمل على تحسين مستواهم وكسب رضاهم بما يوصى به التربويون ذوو الخبرة والتجربة:
أ- تخفيف نصاب الحصص الدراسية وما يصاحبها من تكليفات إدارية، لتخفيف الضغوط عليهم ومنحهم المزيد من الوقت للاهتمام التربوي بالطلاب.
ب- تنقيح وتخسيس المقرَّرات والتركيز على اكتساب المهارات الأساسيَّة وزيادة المواد ذات الأنشطة الصفية والتفاعلية، بما يتيح مزيدًا من الوقت لنشوء العلاقة التفاعلية بين المعلم والطالب.
ج- تكثيف المشاركة في الدورات التدريبية القصيرة والطويلة وجعلها إلزامية ومدار تقييم.
د- تحسين بيئة العمل المدرسي من حيث توزيع العمل حسب التخصص والتأهيل وليس لسد الفجوات الناتجة عن نقص النصاب أو نقص المدرسين.
هـ- إيجاد علاقة بين حوافز الترقية والعمل الإضافي المكافأة (لدروس التقوية مثلاً) وبيَّن مستوى الأداء.
و- إيجاد حلول جذرية لمشكلات الاغتراب والنقل وسوء بعض المرافق والمبانى المدرسية ونقص الأدوات التعليميَّة نتيجة ضعف الموارد الماليَّة المتاحة، وذلك لخلق بيئة عمل مريحة.