لو كل دولة في العالم تواجدت فيها أقلية مختلفة عرقيا ومذهبيا عن الأغلبية من السكان وطالبت بالاستقلال واستقلت لتحول العالم إلى دويلات صغيرة، ولكن هل يستوي الجميع في ذلك!
نظريا، تقول لنا المواثيق الدولية نعم، لكن الوقائع على الأرض مختلفة ولنا في دولة جنوب السودان مثال نضربه للتدليل.
الوجه الحقيقي لثقافة التعدد السياسية في أفريقيا بدأ يظهر الآن في جنوب السودان، البلد المفكك قبلياً وأريد له أن يكون ذريعة لتفتيت السودان الأم وكان له ذلك، لكنه ما لبث أن بدأ يظهر مدى هشاشة التحالف القبلي الضعيف بين سكان البلد الوليد. ما يحدث الآن فيه من اقتتال وثورة انقلابيةٍ دليل على التحالف الهش المدعوم من قوى أفريقية وغربية كان الغرض منه تفتيت السودان باسم المسيحية الأفريقية، وتلقى فيه الانفصاليون جميع أشكال الدعم اللازم، والذي مكنهم من شن حرب استمرت عقودا للمطالبة باستقلال جنوبهم.
كيف استفاد الجنوب السوداني المستقل حديثاً من النفط الموجود في أراضيه وهل هناك فعليا أي تنمية أو هل وفر رخاءً لمواطنيه الذين سارعوا بالتصويت للانفصال عن الوطن الأم، أم أن حالهم قبل استقلالهم كان واعداً أكثر؟
خرافة الوطنية التي لعب بها جون جرنج وسيلفا كير وغيرهم من قادة الانفصال الجنوبي وحاربوا بها السودان على مدار عقود هل أجدت في الكرامة للجنوبيين وهل زادتهم لحمة، وهل عملوا منذ اليوم الأول لاستقلالهم على النهوض بوطنهم المستجد، أم انشغلوا في غزوات النهب والسلب والسبي، حتى باتت قبيلتيهم الرئيسيتين أساساً للمواطنة والانتماء.
ما إن عزل سيلفا كير نائبه مشار حتى رجع الأخير لمراكز نفوذه وأعلن العصيان، فنشبت الحرب وشُرد الجنوبيون ولكن هذه المرة بعيدا عن اتهام الجيش السوداني والقبائل العربية، وإنما بأيديهم أنفسهم. سارعت حينها أفريقيا والدول التي حرضت ضد السودان لإرسال مبعوثيها لإعادة لم الشمل وحل الأزمة، في سباق مع الزمن حتى لا تنتكس وجوههم بعد أن ساهموا في تفتيت السودان وغرس دولة وليدة فيه تضمر الكره والشر للمسلمين، وأداة لتهديد دول الشمال الإفريقي العربية، وقاعدة لإسرائيل تنتشر منها لدول أفريقيا كافة.
جهود الوساطة حتى اللحظة أجدت نوعاً ما في نزع فتيل الأزمة، مع قناعتي بأن الاستقطاب على أشده والوطنية الهشة التي قادت القبائل للاستقلال باتت الآن سراباً في ظل لجوء كل طرف لأتباعه من نفس القبيلة التي يرى أحدها في تحركات الآخر تحجيماً له وعزلاً.
ما حدث لدولة جنوب السودان هو نفس السيناريو الذي شاهدناه سابقاً بين إندونيسيا وتيمور الشرقية، حيث سارعت الأمم المتحدة والغرب لتأييد الانفصال، لكن وفي المقابل لم نرَ لنفس الأطراف ذاك الحماس تجاه ثورة الشعب السوري الذي راح ضحيتها حتى اللحظة أكثر من مائتي ألف قتيل وملايين المشردين، ولم نسمع نفس عبارات الحرية والإنسانية كالتي سمعناها عن دارفور لما يجري الآن من حصار مطبق ترتكبه قوات الأسد تجاه لاجئي مخيم اليرموك ولا الجياع الذين باتت لحوم القطط والأعشاب غذاؤهم الذي لن يكون حتى كافياً لسد جوعهم.
ازدواجية المعايير لمفهوم الحرية والديمقراطية لدى العالم الأول المتحضر هو من يسهم في إنتاج نماذج الحروب والاقتتال كالتي نراها في جنوب السودان الآن وإفريقيا الوسطى، وقبلها مالي وساحل العاج والكونغو، والقائمة طويلة ودلالاتها تشير إلى أن الديمقراطية التي ينادي بها البعض ليست إلا وسيلة يؤيدها طالما تتماشى مع أهدافه وينأى عنها إن تقاطعت مع مصالحه، ولكم في دولة جنوب السودان خير دليل على ذلك.