لدينا حالة استثنائية، حالة قل أن توجد في دولة أو بلد في العالم.. وهي حالة تكوّنت بفعل الوقت وعوامل التعرية الوطنية، ومن أبرزها الصحوة والتحزب وبمساهمة مباشرة من الحركيين. القصة ليست جديدة، لكنها قديمة ومتجددة..!
وفي حركة التشويه الممنهج والمتعمد أصبحت الوطنية جريمة بين المنكر والجاهلية والوثنية والعيب والحرام تقريبا!
أتذكر حين أقرت حصص الوطنية ضمن منهج التعليم المطور، وكنت حينها أدرس بثانوية صقلية.. أصبح أستاذ المادة الجديدة هو نفس أستاذ المواد الدينية، بل هو نفس الأستاذ المسئول عن نشاط جماعة «التوعية الإسلامية»، ولا أعتقد أبدا أنها كانت صدفة، بل بالقصد المنظم، طبعا لم يكن هناك منهج مكتوب لمادة الوطنية أصلا.
تحدث ذلك الأستاذ الذي ما زلت أتذكره جيدا، وأتذكر -أيضا- إدارة المدرسة المتدينة في كل مراكزها القيادية- في اليومين الأولين وبعمومية غير مفهومة عن حب الأوطان، والانتماء للتراب الذي ولدنا عليه!
في المرة الثالثة كان الأستاذ أكثر وضوحا وصراحة، وقال لنا: إنه حين حاول أن يتحدث عن الوطنية لم يجد مبررا، فهو يرى أن كل الأوطان بلاد للمسلمين، وانطلق يحدثنا عن الأمة الإسلامية، هكذا بلا جغرافيا!
الحقيقة أننا في ذلك الوقت لم نكن نميز إن كانت شجاعة أو تحدي أو حركية المفهوم.
وليس لدي أدنى شك في أن كثيراً من الحوارات العامة والخاصة، في المحاضرات العلنية والسرية، وفي كل الإصدارات التي توزع مجانا، حتى في صوالين الحلاقة والمشاغل النسائية، وتلك التي تتم طباعتها باسم «فاعل خير». كانت تقدم وتروج لذات المفهوم مفهومة الأمة.. والخلافة خارج كل التعارف الجغرافية والسياسية والوطنية!
بمثل هذا التقديم المشوه من الصحوة الغابرة التي قفزت على الجغرافيا لتجنح نحو الأمة وهمومها على حساب الوطن.. حيث لن تجد في محاضرة من تلك التيارات الآن أو في الخطاب الصحوي ذكرا صريحا إيجابيا «للمملكة العربية السعودية» ككيان ودولة!
إلى هناك تعود بداية الشبهات على الوطنية، وعلى أي مبادرة، شعور، تعبير، تصريح، ودعم، دفاع باتجاه الوطن وله ومعه، تلك المجهودات الحثيثة للحركيين والحزبيين شوهت وساهمت وما زالت في تخويف وتخوين كل صوت وطني..!
ذلك الجهد لتشويه وتجريم أي شعور، جهد وطني يعود اليوم بصيغ جديدة، وبنفس البواعث القديمة، وإن اختلفت الآليات، حيث تجد في شبكات التواصل الاجتماعي وغيرها أن الإشادة بمواقف وطنية وملكية، ودعمها أصبح من باب (التطبيل) ضمن رحلة التشويه التي اعتاد أن يمارسها الحركيون وأعداء الوطن أيضا.
التطبيل هو التهمة لكل من يعبر عن اعتزازه ومحبته لوطن واحد ومستقر..
من المراحل السياسية الأكثر حساسية من حرب الخليج وتحرير الكويت، إلى الأزمات الإقليمية المتعاقبة، وصولا لإرهاب القاعدة، وأزمة الإخوان، ثم الآن مع القرارات السعودية القوية للجم الإرهاب وتجار الجهاد، والجماعات الإرهابية والتحريضية ظل الموقف المضاد للوطنية يتلبس كل مرة شكلاً للتقليل من أي شعور وطني مؤازر وداعم ومتوحد مع قيادته.
والهدف الدائم إضعاف الحس الوطني والترهيب من التعبير العاطفي أو العقلي عنه.. إضعاف القيمة العميقة للوحدة الجغرافية والسياسية للمملكة العربية السعودية.