تمايزت العلاقة بين الفنون التشكيلية والنظم الاقتصادية، فتارة كانت الفنون ظاهرة على النظم الاقتصادية برسالتها وقيمها وتارة كانت ضمن المنظومة الاقتصادية، فمع الموجه الأولى للتقدم البورجوازي كانت العلاقة بالفنون لا تزال شفافة نسبياً والفنان صاحب المواهب المتعددة والخلاقة يدافع عن قيم عصره وجمالياته، وأيضاً مع ظهور الحركات البرجوازية الديموقراطية ما زال الفنان يعبر عن أفكار عصره ويدافع عن إنسانيته، ومع بدايات الرأسمالية لم يكن الفن ضمن اهتماماتها الاقتصادية وكانت النظرة الرأسمالية للفن على أنه شيء هامشي لا يطعم خبزاً، ومع ازدياد ثروات الرأسماليين بدأ اهتمامهم بالفنون كنوع من الترف الذي قال عنه ماركس (لم يكن لترف الرأسماليين أبداً ذلك الطابع الأصيل للتبذير غير المحمود، فوراء ذلك الترف يكمن جشع وضيع وحساب ملهوف) وترف الرأسماليين أيضاً كان نوعا من التباهي وحب الظهور وإشهار للذات وللمكتسبات والثروات، ومن ذلك دخلت الفنون ضمن اهتماماتهم وطرفاً في اللعبة الاقتصادية، ولعل التناقضات الداخلية التي عاشتها الرأسمالية وحريتها التي تراها وتنادي بها وهي في الواقع تمثل عبودية مأجورة هو ما انسحب على الفنون التشكيلية فأصبح العمل الفني سلعة والفنان منتجا لهذه السلع وفق النظرة الرأسمالية التي أصبحت موجهة لبوصلة الفن وبورصته، بل تعدت ذلك سلطة الرأسماليين في الفنون إلى صناعة الفنان وفق نظرتهم المغرقة في الذاتية المالية، فلم تعد الموهبة مهمة للفنان الجديد ولم تعد الحاجة ملحة للفكر والثقافة والوعي والمهارة في بنية هذا الفنان، وأصبحت الساحة التشكيلية سوقا يباع فيها كل شيء ويشترى بعيداً عن القيم الفنية الحقيقية والمبادئ الإنسانية في ساحة لا يعلم فيها من البائع ومن المشتري ومن المنتج ومن المستهلك، وصار الفنان ترسا في دوامة عاتية تعصف بكل الأسس الفنية والقيم الجمالية وتسير به إلى مناطق يصبح فيها الإنسان غريباً وسط غرباء، ولم يعد بوسع الفنان الحقيقي الصادق الدفاع عن قيمه وفنه وسط عالم مليء بالغرباء عن مجتمعهم، وبقيم السوق والتسليع لكل شيء أصبح وضع الفنون أكثر تعقيداً في ظل الرأسمالية ولكن ومع ذلك كله إلا أن هناك ما يحمد للرأسمالية هو زيادة الطلب على الفنون وكثرة الإنتاجية في مجموعة كبيرة من الأعمال بمستويات مختلفة ومتباينة، وأيضاً تغلب الرأسمالية على محلية الفنون، لكن على الرغم من إيجابيته الظاهريةإلا أنه صار مصدر إغراء ومنافسة لخروج أعمال هشة وتجارب غير ناضجة فاقدة للهدف والقيم الإنسانية والفنية باسم الشهرة وتجاوز المحلية التي بدت في ظل الرأسمالية متاحة وسهلة المنال لمن دخل ضمن اللعبة وقبل بشروطها ولو على حساب هويته ومبادئه وحتى قيمه الدينية، فالمال هو الموجه والمادة هي الهدف والغاية التي تبرر جميع الوسائل للوصول إليها ولو كان ذلك على حساب كل ما هو قيم.