قضت إرادة الله عز وجل وشاءت حكمته أن يجعل في هذه الدنيا حلالاً وحراماً ابتلاءً وامتحاناً منه عز وجل لنا نحن بني آدم «خلفاء الله في الأرض» و».. الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس...»، ومن أشد الأشياء في حياة المرء أن يعيش طوال عمره على الحرام، وينتقل من هذه الدنيا وهو مسربل بالحرام، وربما لا يعرف عمق هذا الجرح وشدة هذه المعاناة إلا من عاش وما زال يعيش في بلاد الغرب خاص المتجمدة منها.
أذكر أنني سافرت قبل أكثر من عشر سنوات مع مجموعة من الزملاء إلى فلندا، وكانت معضلة المسلمين الأساس وسؤالهم الأكثر والأشهر والدائم عن «الحلال»، الأكل الحلال، الشرب الحلال، الكسب الحلال، الزواج الحلال، التعامل مع غير المسلم الحلال، الهجرة الحلال، الدعاء الحلال.. أسئلة لا تنتهي كلها تفتش عن المسموح به مما هو مصنف في دائرة «الحلال».
إن صناعة الحلال مطلب عالمي ملح، ولأننا موطن الإسلام، وقبلة المسلمين، وبلد الحرمين، ومهبط الوحي، ومن يصدر للمسلمين الفتوى الموثوق بها غالباً، فإنهم يطالبوننا قبل غيرنا بحل مشاكلهم الجاثمة على صدورهم المقلقة لهم، يطالبوننا أن نطهر أجسادهم من الحرام أو حتى المتشابه، فـ»الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له».
صدقوني هذه مشكلة المسلمين العالمية ولو انبرى لها أناس من بيننا يحملون الهم ويفكرون بأفق واسع ويخططون بشكل جدي لحل مشاكل إخوانهم أينما كانوا فسيكون على أيدينا نحن أهل هذه الديار المباركة فتح مبين لهم، وحل حقيقي لغربيتهم عن الحلال.
لقد طرح فقه الأقليات وعقدت من أجله المؤتمرات وأجريت الأبحاث والدراسات ولكن ما زال الواقع يحتاج إلى مشروع عملي وإبرام اتفاقيات دولية من أجل الظفر بالموافقة على تأسيس شركة عالمية «عابرة للقارات» متخصصة بالحلال.
إننا في زمن العولمة، وليس صحيحاً أن هذا المصطلح يعني الأمركة كما كان يقال لنا عشية ميلاده، بل هو فرصة لجميع الهويات وكل الديانات أن تقدم نفسها وتسويق ما لديها وتنافس على كسب المستهلك أينما كان، وقانون العرض والطلب هو الحكم.
النظام العالمي الجديد لا يمانع من افتتاح شركة أغذية عالمية متخصصة بالحلال لدى المسلمين مثلاً، ولا يرفض قيام مشروع تجاري تخصصي أبداً، ولكن ربما يكون الخلل فينا، وربما لم يدرك البعض من رجال الأعمال الخيرين الذين ينبرون لبناء المساجد والمراكز الإسلامية هنا وهناك حاجة المسلمين لصناعة الحلال، بل إن بعض المسلمين وللأسف الشديد يكون شريكاً في مشروع تجاري أو أن لديه أسهماً في شركة غربية تقارب النصف أو تزيد ومع ذلك ليس في ذهنيته أن يساهم في تيسير سبل الحلال أمام المسلمين أو حتى غيرهم قاطنين كانوا أو أنهم زائرين وسائحين.
إن من أشهر المشاركين في حل هذه المشكلة التي قد تعترض طريق أبنائنا المبتعثين «الإيرانيين» و»الهنود» وفي مرتبة تالية «العراقيين» و»اللبنانيين» الذين سهلوا لهؤلاء الشباب المغتربين ولإخواننا المسلمين -على الأقل- التلذذ بطعم الحلال.
إنني هنا لست في مقام الفتوى، ولا أريد الدخول في بيان وسرد الأحكام الشريعة المعروفة في هذا الباب ولكنني أحببت التأكيد على أهمية المشاركة الحقيقية في صناعة الحلال ليس في المأكل والمشرب فحسب، بل وحتى في أبواب العيش وطرق الكسب، ورجال الأعمال والمال في هذه البلاد المباركة ممن يتوسم فيهم الخير والحرص على فعله هم المرشح الأقوى لفعل شيء ولو يسير في هذا الميدان العزيز، دمتم بخير وتقبلوا صادق الود والسلام.