* تساءلت، وتساءل غيري كثيراً عن السر في تحاشي (الجزائر)، بلد (المليون شهيد) أحداث ما يسمى بـ(الربيع العربي)، كونها إحدى الدول التي كان للصراع الداخلي أثر في تاريخها السياسي الحديث ومسيرة تنميتها على كافة المستويات. أين هي اليوم عما يشهده العالم العربي المحيط بها من قلاقل؟.. كيف استطاعت حكومتها الحالية الإصلاحية أن تنأى بنفسها عن خضم هذه الأحداث؟.. ولماذا كان الشعب الجزائري -وهو العريق في تجربة النضال ضد تقييد الحريات- أن يكون حريصاً على وحدة الموقف؟.. لماذا لم تستطع أي دولة أن تستميلها، أو تجرها إلى ساحات الصراع السياسي على أقل تقدير؟. بلد كالجزائر يحتضن أحزاب سياسية عديدة، وتيارات فكرية متباينة، كيف يفسر خبراء الاجتماع، والسياسة، والتاريخ، والاقتصاد عوامل وحدتهم، وتصالحهم مع بعضهم، رغم تشابه الظروف الاقتصادية مع غيرهم، ممن ضربهم طوفان (الربيع العربي).
* كما سلطت بعض وسائل الإعلام المأجورة الضوء على دول اهتزت ومادت كان من الأجدر أن يلتفت من ينشد السلم والأمان للشعوب إلى تجربة حكومة وشعب الجزائر، وموقفه الواعي من الأهداف والغايات من تلك الحركات التي استبطنت في حقيقتها أهدافا أخرى غير ظاهرة، لكن يبدو أن من يعشقون الفوضى والاضطراب والزعزعة للشعوب هم من يعلو صوتهم في كل حدث، وفي كل زمن.. حيث تستغل العواطف الهشة أمام صغائر الأمور أحياناً.
* التجربة الجزائرية في الإصلاح والتطوير لمؤسساتها والتحول الديمقراطي في أنظمة حكمها سبق ما يعرف بموسم (الربيع العربي) بحوالي عشرين عاماً، ولعل من حسن الحظ لها أن تكون سابقة للانفتاح الإعلامي الفوضوي، أو ما يسمى بالإعلام الجديد الحر بكل تقنياته، والذي أحدث وسيحدث تحولاً خطيراً في الحياة الاجتماعية مثل ذلك الأثر بالحياة السياسية على مستوى العالم، وبخاصة في دول العالم الثالث، التي كان بعضها بعيداً عن مرمى الحروب العالمية الطاحنة.
* من المؤكد وكما قلت إن (الجزائر) مرت بمرحلة صعبة في تاريخها، إذ شهدت موجة من الاحتجاجات، وحينها سمح بالتعددية السياسية، والتداول السلمي للسلطة، لكن ما أثبتته الأيام، ويجب أن تعيه الشعوب أن الفتن والقلاقل لا يمكن تصديرها من دولة لأخرى، مهما بلغت تلك الدولة ما لم تساندها قوى داخلية مؤمنة بهذا الاتجاه، ولذا وبفعل الوعي المجتمعي لم تستطع دولة من الدول من اختراق الجبهة الداخلية للجزائر بسهولة. أما ما سواه من المجتمعات المحيطة فلم تكن محصنة تحصيناً جيداً، ولم يكن بداخلها تلك الحياة التي تؤمن بأهمية العدالة الاقتصادية والاجتماعية، بحيث تكون كفيلة بحجب المؤامرات التي استطاعت تحريك الشارع العربي لأتفه الأسباب. لأن الشعارات التي تم رفعها وراهنوا عليها لن تكون مرضية ومقنعة في المرحلة الراهنة، أو لنقل على المدى القريب الذي يخرج عن حساب عامة الجماهير، ذات النظرة المستعجلة للنتائج، ولهذا تبقى تلك المناطق التي اجتاحها (الربيع العربي) على صفيح ساخن، مهما قدمت حكوماتها.
* ليس من الضرورة بحال من الأحوال أن يكون تردي الأوضاع الاقتصادية، وتفشي البطالة في أيّ بلد من البلدان، بسبب الاستبداد، والقمع، وسوء استثمار الموارد، أو السلطة، بل في بعض الأحيان تكون نتيجة كوارث طبيعية، خارجة عن إرادة البشر، وربما تخفى هذه العوامل وأثرها على بعض الفئات. وعلى أيّ حال كان تقدير مثل تلك الحركات، واختلاف وجهات النظر حولها، فإن الوضع يحتم على الحكومات استقراء كل ما يدور في عقل إنسان الشارع العربي، بكل أطيافه، وبجميع مستوياته، والنار، كما قيل (من مستصغر الشرر). وليس من المؤكد أن الشعوب لديها من الاطلاع والوعي، وفي أيّ مرحلة تمر بها ما يجعلها تمتلك الوعي وتستحضر تجارب الآخرين، لتستفيد منها، قبل أن تنضم إلى قوافل الراكضين، أو اللاهثين وراء سراب الحريات.