في ختام اللقاء الثامن للخطاب الثقافي السعودي، الذي جرى في مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني، وناقش (التصنيفات الفكرية وأثرها على الوحدة الوطنية)، طالب المشاركون والمشاركات بضرورة سَن أنظمة وتشريعات تجرم العنصرية والكراهية، التي عادة ما تأتي نتيجة تلك التصنيفات داخل أوساط المجتمع السعودي ..
.. ورغم أن المتحاورين أكدوا أنه مجتمع متنوع، وأن الحراك الفكري والثقافي بين أبنائه ظاهرة صحية، إلا أنهم نبهوا إلى أن تلك التصنيفات الفكرية لم تقف عند إطارها الفكري فيمكن قبولها في سياق ذلك الحراك، إنما امتدت إلى الطعن في العقائد، والاتهام بالعمالة للدول، والجماعات، والأعمال الإرهابية، فتجد تصنيفات: علماني، وليبرالي، وإرهابي، وظلامي، وغيرها من تلك التصنيفات، التي جعلت البعض منا يتصور أن كل من يستند إلى حكم ديني أو يقول برأي فقهي هو متخلف يريد أن يعيدنا إلى عصور الانحطاط، في مقابل من يتصور أن من يقول برؤية غربية، أو فكرة عالمية، يهدف إلى تغريب المجتمع وإفساد الأمة. حتى كانت النتيجة احتقاناً فكرياً بين أصحاب التيارات وقيادات النخبة المثقفـة، سقطت معه الثقة بين المتحاورين، وتاه حسن الظن بين المختلفين، وتحولت المسألة الاجتماعية لأية قضية وطنية أو مشكلة تنموية إلى فرصة إعلامية لبث روح الكراهية، وتصيُّد أخطاء كل طرف تجاه الآخر، وتصفية حسابات باسم الوطن.
إذاً، كيف يمكن التوفيق بين (استمرار الحراك الفكري) في المجتمع من جهة، ومن جهة أخرى (حماية التنوع المجتمعي) المرتبط بخلفيات ثقافية مختلفة؟ بحكم ارتباطهما بمسألة التصنيفات الفكرية، التي تنتج بشكل طبيعي من ذلك التنوع وبتأثير ذلك الحراك؛ فيتم استثمار هذا التوفيق في تعزيز الوحدة الوطنية، وإثراء الحوار الوطني، والاستفادة من تجارب الآخرين في التنمية والتحضر، خاصة أن مجتمعنا اليوم أصبح مفتوحاً بشكل واسع على العالم بكل أفكاره المتجددة، وتقنياته المتسارعة، وتياراته الفكرية، ومشاريعه الحضارية.
برأيي، إن ذلك لا يمكن إلا من خلال محورين رئيسين: الأول هو تكريس الشعور العام بأننا أبناء وطن واحد، وننتمي لدين واحد، مع تغليب (حسن الظن) بين المتحاورين مهما كانت رؤاهم الفكرية وخلفياتهم الثقافية متباينة. فالحوار الجاد والهادف والحضاري في كل الدنيا يتطلب أقصى درجات الأدب، واحترام الآخر مع المخالف عقائدياً، والمختلف مذهبياً، فما بالك بالمتفق معك عقائدياً ومذهبياً ووطنياً. فلماذا لا نؤسس حوارنا على القاعدة الذهبية (نفرح فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه)؟ أما المحور الآخر فهو (غياب المرجعية). فهذا الغياب هو الذي جعل التصنيف الفكري تهمة، بدلاً من أن يكون خاصية ثقافية تعكس تجربة حضارية يحملها هذا المثقف، أو الداعية، أو المفكر، أو الأستاذ، أو غيرهم من أبناء الوطن.
والمرجعية التي أعنيها هي المظلة التي تجمع كل المثقفين على مختلف مشاربهم وتنوع ثقافاتهم، وهي النابعة من الخضوع للثوابت الوطنية والإقرار بالخصائص الثقافية للمجتمع؛ إذ يلتزم كل طرف بعدم الطعن بهذه الثوابت أو القفز عليها، خاصة ما يتعلق بدين الوطن، ومقدساته، وشرعية نظامه، وأمنه واستقراره، أو محاولة تجـاوز قوانينه، ومصادمة عاداته، بحجة استيراد الأفكار الحضارية، أو محـاولة تجييش الرأي العام، من خلال مواقع التواصل الاجتماعي لفرض أمر واقع، أو تحـريض أبنائه على وحدته الوطنية.
هنا لم يعد الأمر تصنيفاً فكرياً، إنما تطور إلى إخلال بوحدة الوطن وشق الصف؛ لذا ينبغي التأكيد دوماً على هذه المرجعية الشاملة والنابعة من النظام الأساسي للحكم في المملكة؛ فيلتزم كل من يعرض لرأي، أو يطرح فكرة، أو ينادي بدعوة في أوساط المجتمع السعودي، أو بما يخص أي مجال في التنمية الوطنية، بأن يخضع ذلك الرأي أو تلك الفكرة أو الدعوة لهذه المرجعية، فإن كانت تعارضها، أو تخالفها، أو على الأقل تفتح باباً للبلبلة من خلالها، فعليه أن يتوقف، وأن يستشعر مصلحة الوطن، وأهمية وحدته بكل تجلياتها؛ كي لا ترتد أصوات الدهماء بالتعليق والثرثرة، ومن ثم الطعن بصاحب ذلك الرأي، أو تلك الفكرة أو الدعوة بأي تصنيف مما يحفل به سجل التصنيفات الفكرية، فيظهر الاختلاف بين من يؤيد ذلك الرأي أو تلك الفكرة وبين من يعارض، ثم يتحول إلى احتقان فكري نحن في غنى عنه؛ لأنه يؤثر سلباً في وحدتنا الوطنية.