يُفطم الصغير عندما يبلغ من العمر عامين أو أقل من ذلك أو أكثر بقليل، وفيما مضى من غابر الأزمان، كان الفطام عسيراً على نفس الطفل الذي اعتاد أن يحصل على زاده من ثدي أمه، ولا يستبدل ما كان معتاداًَ لسد حاجته الجسدية والنفسية، إلا بعد الفطام والتعويض عنه بشيء آخر، وبعد فترة غير طويلة لا يلبث الطفل أن يألف الجديد، وينسى ما كان معتاداً عليه، ومع مرور الزمن تبقى تلك الفترة عالقة في ذهن الطفل الذي أصبح صبياً، لكنه لم يعد يتأثر بها أو يحتاجها، ولهذا فإن ما قد يتلقاه الطفل من درس في علم النفس، هو ذلك النسيان، واستبدال أمر بغيره، دون رغبة منه، وإنما هو اتباع لسنن الحياة التي أوجدها الله في الإنسان جبلة دائمة، وربما ترمز إلى ما قد يواجهه في حياته من فطام يتلوه فطام عبر مسيرة حياته، ولا شك أن تلك المرحلة من العمر، مرحلة لا يكاد يعي فيها الطفل الشيء الكثير، فهو مسير بما يتعامل به معه والدته أو والده، وهو في ذلك العمر لا يعنيه ما قاله شاعر تغلب المشهور عمرو بن كلثوم في معلقته المشهورة، بعد قصته مع الملك المنذري عمر بن هند في العصر الجاهلي حيث قال:
إذا بلغَ الفطامَ لنا وليدٌ
تخر له الجبابرُ ساجدينا
وهو لم يقل ذلك إلاّ مبالغة في الفخر، أثناء موقف يستوجب ذلك، وأعذب الشعر أكذبه، وكلنا يعلم أن المبالغة في الشعر تعطيه مسحة من الجمال، حتى وإن جاوز المعقول.
سنتجاوز فطام الطفل وشعر ابن كلثوم، لننتقل إلى من شابَ وسار في خضم أحداث الحياة وتلون بلونها، ولبس ثيابها الرثة والجميلة، حتى يُوارى في قبره ليجد أمامه عفو ربه بإذنه تعالى.
ففي مسيرة حياة الإنسان لا بد للأمواج أن تتقاذفه هنا وهناك، وقد يحدث أن ينكر قريب جميلاً أسداه له، أو أن تهجره زوجته أو قريب أو صديق، أو حتى مجموعة من الأصدقاء، وقد ينكر عليه من أسدى الإحسان إليه، أو من نذر جزءاً من عمره مخلصاً في وده.. فيتأثر تأثراً كبيراً, وتضيق عليه الدنيا بما رحبت، ويظل يلهث وراء سراب عودة المحبوب، أو تراجع الصديق عن صدود، أو اعتذار المنكر عن نكرانه، ويظل كذلك وتضيق الدنيا في عينيه، وقد يصيبه شيء من الاكتئاب، أو الانزواء، أو التغير في طريقة تعامله مع من حوله.
الواقع أن ذلك الإنسان حمّل نفسه أكثر مما تتحمّل، نسي الفطام في طفولته، ونسي ذلك الدرس العظيم في الإبدال والاستبدال، وأن الله لا يضيع خلقه، وقد يستبدل الواقع بالذي هو خير، فما لذلك الرجل إلا أن يعود لأول درس تلقاه، وهو درس الفطام، فينسى ما لحق به من ضيم، ويفطم نفسه عن تلك أو أولئك الذين أظهروا صدوداً عنه.
ليس قيس بن الملوح نموذجاً في هيامه بليلى العامرية فما له ولها، وهو يستطيع أن يسلو عنها، لكنه أبى إلاّ أن يعيش مجنوناً في حب غادة لم تسمح له ولها الظروف باللقاء والعيش في سعادة وصفاء، ولا بد أنه قد نسي درس الفطام فآل أموره إلى الهيام.
هناك أعداد هائلة قد مر عليهم ما مر على قيس، وتجاوزوا المحنة المؤقتة، واستفادوا من درس الفطام، ونسوا ذلك الوئام، واستمتعوا بالحياة، وأخذوا منها حلوها، وتركوا مرها، لمن سواهم، وعاشوا في سعادة ما استطاعوا.
كذلك من تعلق بصديق حميم، أو أصدقاء حميمين، فرابه منهم ما رابه، فما عليه إلا أن يتذكر سن الطفولة ومرحلة الفطام، فينسى ذلك الصدود، ويدعو الله أن يجعله خيراً له في دنياه وأخراه، وفي الأرض متسع، ويبقى على الود، وينسى الصد، ويأخذ من الدنيا أطيبها، حتى وإن كان لأصدقائه محباً ووفياً ومخلصاً، وليس كما هي حال أبو جعفر بن طلحه الأندلسي الذي قال عن أبو العباس البناشتي شعراً يهجوه فيه بعد جفوة رآها منه:
سمعنا بالموافق فارتحلنا
وشاففنا له حسب وعلم
ورمت يداً أقبلها وأخرى
أعيش بفضلها أبداً وأسمو
فانشدنا لسان الحال عنه
يد شلاً وأمر لا يتم