عجيبة هي طبائع البشر، ومن يرغب في المزيد من التعرف على هذه الطبائع، عليه أن يطلع على ما كتبه علماء الإنثربولوجيا الاجتماعية، ليقف على ما لا يخطر على البال من الطبائع والسلوكات الغريبة التي يحار العقل في تصديقها، فضلاً عن تقبلها، وعلى الرغم من التطور الثقافي والتحولات التي طرأت على المفاهيم المعرفية، والعلاقات البشرية، إلا أن البعض مازال أسير ثقافته المجتمعية الضيقة، أو أسلوب تنشئته الاجتماعية التي رسخت فيه طبائع تتسم بالجفاف والجفاء، والجهر بالسوء في القول والعمل.
وجدت امرأة عجوز ذئباً رضيعاً، أشفقت عليه، فأخذته لتقوم بتربيته في بيتها، ظناً منها أن صغر سنه أنساه طبعه الفطري العدواني الشرس، أخذت تعلمه الرضاعة من شاة عندها، تربى وترعرع على ما كانت تظن هذه العجوز المسكينة، حتى كبر وقوي جسده، في إحدى المرات غلبه الطبع الأصيل، فانقض على الشاة فبقر بطنها، فلما رأت العجوز المنظر، أنشدت متحسرة على شويهتها قائلة:
بقرت شويهتي وفجعت قومي
وأنت لشاتنا ابن ربيب
غذيت بدرها ونشأت معها
فما أدراك أن أباك ذيب
إذا كان الطباع طباع سوء
فلا أدب يفيد ولا أديب
في الطبائع ما هو أصيل فطري، مثل ميل الإنسان لبني جنسه، ومنها ما هو مكتسب طارئ، وهذا تتعدد صوره وأشكاله كل حسب بيئته الاجتماعية، منها ما يتأثر بالطبيعة الجغرافية مثل الصحاري والجبال والسهول، وبالحالة المناخية المنطقة الحارة غير الباردة، وكل هذه الأنماط من الطبائع مفهومة ومسوغة، وتكاد تعذر من يحصل منه سلوكات تخرج عن الإطار المنطقي المقبول على اعتبار أن هذه المؤثرات أثرت في التكوين النفسي للإنسان فوسمت طبعه بسمة معينة متواترة عنده وعند غيره ممن يعيش في إطار المؤثر سواء الطبيعي أو المجتمعي.
ولهذا غالباً ما يعذر من تحصل منه سلوكات فجة، على اعتبار أنه نتاج ذاك المؤثر الذي وسمه بما غلب على طبعه الناشز أو النافر عن المتواتر من طبائع البشر، من الشواهد على ذلك، عندما قدم علي بن الجهم على المتوكل وكان بدويا جافيا، فأنشده:
أنت كالكلب في حفاظك للود
وكالتيس في قراع الخطوب
أنت كالدلو لا عدمناك دلوا
من كبار الدلا كثير الذنوب
عرف المتوكل سلامة مقصده، وخشونة لفظه، فأمر له بدار على شاطئ دجلة، فحصل الأثر ومما قال:
عيون المها بين الرصافة والجسر
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
هذه الطبائع وغيرها مفهومة متفهمة، لكن الطبائع التي يحار العقل في فهمها وتفهم مسوغاتها، تلك الخشونة في اللفظ التي غدت سمة في مواقع التواصل الاجتماعي، وأخص موقع « تويتر» حيث تلمس في تغريدات البعض سمة تكاد تطبعهم بطابع واحد، وخاصة تجاه من يخالفهم الرأي أو يختلف معهم في تفسير موقف، على الرغم من أنهم فيما يبدو من ظاهرهم مظنة لكل خير، فمن سماتهم أنهم غير مستعدين لتقبل من يختلف معهم أو يخالفهم، وأنهم عندما يضعون أحداً في دائرة لمسوغ معتبر مفهوم لا ينظرون للأوجه المشرقة الأخرى عنده، تقول لأحدهم: دعك من هذه المقولة الجزئية أو الموقف الناشز، وانظر للمقولات الأخرى والمواقف وهي الأكثر، يأتيك رده منفعلاً، الحق كل لا يتجزأ، ثم يأتيك بأوصاف للمرفوض مخيفة، ويصفه بألفاظ فظة منفرة.
أين هؤلاء من الحكمة والموعظة الحسنة؟، أين هؤلاء من: وجادلهم بالتي هي أحسن؟ أين هم من: وخالق الناس بخلق حسن؟ المؤكد أننا أمام تحول ثقافي طغت فيه ألفاظ بغيضة موحشة، يجب التصدي لها بميثاق أخلاقي قيمي تأتلف حوله القلوب والنفوس قبل أن تتحول إلى محاضن للصراع والبغضاء والكراهية.