لم تمر البشرية في أية مرحلة من تاريخها بمرحلة تشبه أو تُضارِع المرحلة المعاصرة من حيث سرعة التغيير وعمقه وشموله.. ولم تعد التنمية الشاملة المستدامة تعتمد على رأس المال المادي فقط.. بل إن الاحتياج الأكثر أهمية يتمثل في وجود قوى عاملة.. مؤهلة ومدربة وقادرة على الإنتاج الأكثر والأجدر..
هذه القوى هي رأس المال البشري الذي يتراكم عاماً بعد عام من خلال التعليم.. لذلك فإن التنمية لن تتحقق إلا بإحداث تغييرات في النمط الاقتصادي والاجتماعي بمعنى إحداث تغيير إيجابي في السلوكيات والطاقة الوظيفية.. وهنا يأتي دور التعليم لإحداث هذا التغيير المنشود ولعل ما جاء في بعض من آيات القرآن الكريم ما يؤكد بأن تغيير أحوال الناس مرتبط تماماً بتغيير ما بأنفسهم.. قال تعالى (إنَّ الله لا يُغَيِّر ما بِقوْمٍ حتَّى يُغيِّرُوا ما بِأنفُسِهِم) فتغيير ما في النفوس تمهيد ضروري وأساسي لتغيير السلوكيات نحو الأفضل.. وهذا لن يتم ويتحقق إلا عن طريق منظومة التربية والتعليم.
التعليم من ركائز نهضة الأمم.. فالدول التي تقدمت اهتمت بالتنمية البشرية التي عمادها إصلاح وتطوير نظام التعليم والتدريب وخططه ومناهجه وذلك انطلاقاً من مبدأ أن الإنسان هو هدف ومحور التنمية والفاعل والمستفيد الأول منها. والمتتبع لأثر التربية والتعليم في عملية التنمية الشاملة والتغيير الاجتماعي في أي دولة من الدول المتقدمة كاليابان أو سنغافورة وغيرها يتبين من الواقع المشاهد مدى الدعم الذي يحظى به قطاع التربية والتعليم في تلك الدول إيماناً منهم بأنه ثروة وقيمة ثقافية ومعرفية هذا من ناحية وركيزة لدفع عجلة التنمية والتقدم من ناحية أخرى.. إلى جانب أنه وسيلة للحراك والتغيير الاجتماعي والتميز والتفوق ومواجهة تحديات العصر والعولمة. إن قابلية بنية أي مجتمع للتعديل والتغيير ليكون مشاركاً فاعلاً في منظومة التنمية الشاملة.. تتوقف على مدى مرونته وترابطه وتماسكه هذه المعطيات تقوم بدورها على أرضية معينة.. كالشعور بالانتماء ومنظومة من القيم تعزز وتساند أنماط السلوك الاجتماعية والفردية المرغوبة والتي تهدف على جعل الفرد عضواً اجتماعياً يتكيف ويتأقلم مع المتغيرات المحيطة به.. وبدوره يؤثر فيها نحو الأفضل ويفيد مجتمعه. معطياتٌ من الصعب فصلها عن منظومة التربية.. فمشاعر الانتماء والترابط والتماسك تنمو وتتعزز ضمن المؤسسات التربوية والتعليمية فضلاً عن أن التعليم الذي يعد محوراً رئيساً من محاور التنمية والتغيير وأحد المكونات الأساسية في بناء الإنسان وتنميته فهو يساعد على إذكاء السلوك والرفع من مستوى الوعي والقدرة على المشاركة والعمل ضمن الفريق الواحد.. لذلك يُنظر دائماً إلى الجانب الاجتماعي من التربية كعملية يتم من خلالها إنتاجية المواطَنَة النافعة والمتوازنة. فإذا كانت الغالبية من الخبراء والباحثين التربويين يرى في منظومة التربية والتعليم طريقاً للتغيير المجتمعي وأداة مهمة للتنمية البشرية يُعتمد عليها في تنمية الأوطان في جميع المجالات وطريقاً لاستثمار اقتصادي وهو ما يُعرف باقتصاد المعرفة.. فإن البعض منهم وخاصة أمريكا تسعى إلى تغيير مسار التربية والتعليم في بعض الدول إلى مسار أقرب ما يُقال عنه هو سلب لإرادة شعوب تلك الدول وتاريخها وحضارتها.
إذن لا يمكن تصور تحقيق تنمية متكاملة الجوانب دون الأخذ بالمصادر الأساسية المحركة للتنمية.. التربية والتعليم والتغيير الاجتماعي ثالوث متداخل يجمعهم علاقة تبادلية في تفاعل خلاق متكامل محوره رأس المال البشري.