لا تأسوا إن قدم الصيف، فالصيف قادم لا محالة، ولا تتذمروا إن حطت رحال غباره في الصدور، وعلى سطوح الدور، ولا تتمتموا بما لا ترغبون من حال الطقس، وكثرة العطس، فهذه سنن الله في خلقه، يدور الفلك، وتدور فيه النجوم، ومن حولها الكواكب، فلا غرابة.
الناس فيما مضى يتحملون شدة الحر، وقسوة القر، في الليل والنهار، وفي المزرعة، والمنزل، والمسجد، فليس لديهم من خيار، والمرء يتأقلم مع ما حوله من مناخ، وأرض، ومجتمع، فلا مفر غير التأقلم، ولو وجد غيره لما قبل، هناك فيما مضى من لم يتحمل الحال فامتطى مركوبته، إلى ديار أخرى، وهناك من أبحر في سفينة تتلاطم بها الأمواج، لكن السعادة ومقدارها لا يصنعها تغير الحال، ولا يزرعها في النفس المال.
الناس في هذا الزمان يمكنهم تغيير الطقس داخل المنزل، والمكتب، والسيارة، وغيرها، لكنهم غير قادرين على تغيير النفوس، وجلب السعادة، والتمتع بقوة الإرادة، فالنفس لا تتبدل بتبدل الزمان والمكان، لكن من اليسير أن تتغير من ذاتها، وتصنع السعادة لذاتها، فتنعم أيما نعيم.
كنا في الماضي نبحث عن لقمة عيش، واليوم نتحاشى أنواع الطعام، خشية السقام، فسبحان الذي يغير ولا يتغير، فالموائد في كل صباح وظهيره ومساء تتجلى على نمارق مصفوفة، وأكواب موضوعة، روائحها تدعو المرء إلى التذوق، وبعد التذوق الاستطعام، وبعده الالتهام، ومن بعد ذلك المنام، شخيرٌ يزمجر، وبطن يقرقر، وأحلام مليئة بالصدام والخصام، وبعد ذلك كله يقوم النائم من سباته ببطء، ويمشي كالسلحفاة، ويسأل المفسر أن يفسر له أضغاث أحلامه، فينبري له المفسر المغوار، فيحدثه بما يحب، فيرقص طرباً من وهم حلم، وتفسير من مسترزق أو طالب لشهره.
وبعد فترة يأخذ مقود سيارته ويقودها بسرعة مفرطة، كأنه أحرص الناس على الموعد، وأكثرهم التزاماً بما يستوجب، وقبل أن يصل إلى غايته إذا به قد قطع الإشارة، وأغار بسيارة على سيارة ، غارة تلو الغارة، فيعود وفي سيارته ضربة هنا وهناك، وهكذا معظم السيارات لدينا، لا تفنى إلا وفي جسدها طعنة من صدام، أو ضربة من الجانب أو الأمام، ولو سألت عن السبب في كل هذا لقيل: قضاء وقدر، وكأن المر ليس مكلفاً من الله بما هو خير له في أمر دينه ودنياه، ومن ذلك الخير الالتزام بعدم إيذاء الناس، والإتقان في العمل وقيادة السيارة وغيرها من مناحي الحياة.
بعد هذه المعركة المجلجلة، وبعد آن أودى بسيفه ورمحه من ركب أو عبر، يصل ذلك الرجل إلى مجموعة الأصحاب، ليحتسي كوباً من الشاي الأحمر، وآخر من الأخضر، وقهوة عربية، وأخرى أمريكية، ويتناول بجانبها شيئاً من التمر، والمكسرات، والحلويات، والمقبلات، وربما المدمرات، هذا قبل المائدة الكبرى، ثم يتنحنح ويتوسط المجلس في الكلام، فيبدأ بالنقد القاسي، والتذمر من عدم الالتزام بالنظام، وعدم الانضباط، والإهمال، والفوضى، وغير ذلك من الحديث الذي لا طائل منه، وكأنه بمنأى مما يذكر، وأبعد من الشمس عما ينكر، وهو رأس تلك الفوضى إن كان هنالك فوضى، غير أنه يرى نفسه المصلح الأوحد، وقوله القول الأوكد، يرمي بشرر كالقصر على فلان وفلان، وهو لا يعرف عن فلان إلا شذراً، ولم يلقه فينظر إليه شزراً.
هذا الصنف من البشر، هم من الأسوء على كل حال، لأنهم يرون في أنفسهم الكمال، ولا يفعلون من أدوات الكمال إلا أقلها، ويرون كل شيء أمامهم خطأ محضاً، لا يعجبهم العجب، ولو منحوا الدر والذهب، ألسنتهم تلجلج بما ليس حق، في كل يوم لهم مائدة في الحديث، يأكلون لحوم الأحياء والأموات، يقول الشاعر:
وقائلة أراك تطيل فكراً..
كأنك قد وقفت لدى الحساب
هذا بيت من أبيات قيلت في معركة العقاب المشهورة بالأندلس، لكن استعارتها جديرة في هذا المقام، للدلالة على التفكير فيما يفعله بعض الأنام، هدى الله الجميع إلى الصواب، وجعلنا أبعد من أن نكون ممن طلب أن يحمد بما لا يفعل، أو أن يخالف قولنا عملنا، والله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا بما أنفسهم.