قبل عشر سنوات، بل: وأكثر. أصيب المواطنون بـ(لوثة) التنقيب عن أصولهم القبلية. وتفرّغ أفراد معيّنون من كل عائلة لعملية (الحفر) في صخور الماضي السحيق لهذا الغرض، والذي يتطلب منهم أيضا تعليق لوحات ضخمة و(مُبَرْوَزة) في صدور مجالسهم تسمى (شجرة العائلة) وهي شجرة مترامية الأطراف يدوّن فيها على نقاط ما تأخذ كل منها شكل ورقة اسما لأحـد أبناء العائلة
وغالبا يوضع فوق الاسم (نجيمة) تجدها في أسفل الشجرة العتيدة وقد دوّنت فيها أسماء أبناء الذي وضعت النجيمة فوق اسمه وهي أسماء أبنائه (الذّكور) فقط! ويكتفى في حال كان لديه ذرية من البنات بكتابة عبارة سخيفة بعد استعراض اسماء الأولاد (وله ابنتان أو ثلاث بنات) وطبعا دون ذكر أسمائهن وهذه واحدة من دلالات العبث الذي يحيط بهذه العملية الدخيلة على مجتمع يفترض أنه يؤمن بأنه (كلكم لآدم و آدم من تراب) وهي عبارة قرآنية تكفي لاحتقار عملية البحث عن جذور وتكريسها والقول إن آل فلان هم من (بني...) وضع ما تشاء من أسماء القبائل مكان النقاط التي بين قوسين.
ولا تزال - مع شديد الأسف - هذه الظاهرة مستخدمة عن سبق إصرار وترصد. وكأنها إعلان بالغ الأهمية أو كأنما يقول للناس من علّقها إنه ينتمي إلى قبيلة آل فلان من الفلانيين. بينما ينظر إليها الذين لم يصبهم هذا الهوس على اعتبار أنها (تمييز) وهي فعلا: كذلك !. فما أهمية أن تكون سليل قبيلة كبرى في حين أنك لا تتمتع بأي سلوك ٍ يجعل قيمة الشجرة أثمن من سعر الحبْر الذي كتبت به. و هذه المسألة ينبغي ألا نغفلها من الشجب و التسفيه كونها تكرّس لفكر القبيلة الذي انتهى من حياة العرب بنزول الرسالات السماوية التي أكدّت كما في القرآن الكريم أنه لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى و (إن أكرمكم عند الله أتقاكم). بهذه الطريقة وما يشابهها تشعر أنك في مجتمع يزدحم بالنقص و يهفو إلى أن يُدَوّن اسمه كفرد من القبيلة الفلانية وهذا يكفي ليعتبر نفسه وأهله (أصيلين) وكأننا نتحدث عن فصيلة من الخيول أو البغال نمجد كونها هجينا للفرس الفلاني وأن قوتها وما يتلو هذه القوة من مقدرة على السيطرة على القطيع وقيادته باعتبار هذا ميزانا حقيقيا أو شبيها بآلة كشف الكذب أو نوعا من أدبيات مجتمع ٍ لا ينقصه سوى معرفة أصله! ونورد هنا كلمة الأصل لكي نظل في سياق خطابنا الذي يحتقر مثل هذه الأفكار. والذي ينطوي على شيء أساسي ومنهجي من التعايش والتضامن والشراكة مع كل الآخرين. إننا في أوساط مجتمعاتنا البعيدة عن المساءلة والتقريع لا نزال نقول حين نريد أن نعرّف شخصا ما (فلان.. الذي أعمامه من الفلان أهل الموقع الفلاني والمعروفين بالأصل و القول والفعل!!) بل إن في مجتمعنا من يزدري قوما لسبب لا تعرفه فإذا سألتَ عنه قالوا لك لأنهم من جماعة (كذا) وجماعة كذا - وينطقونها باستصغار! - هم من العرق الفلاني المنحدر من (دولة كذا) ويضيف أكثرهم بجاحة وفراغ ذهن (معروفون بالبخل و.. و. .. ) والنقاط السابقة هي من قبيل النقائص التي لا يتصف بها غير (الفلانيين)!
إن وطننا الكبير والذي توحّد بموجب إصرار مواطنيه وقادته في مختلف العصور ليس ألعوبة في أيدي الجهلة والمصابين بحالة النكوص الباحثين عن قشة تنجيهم من الغرق. كما أن المقولة الفكرية التي تؤكد أن ولاء القبلي لقبيلته وليس لوطنه تجد من يسفهها ويعتبرها من أضاليل أعداء الأمة. وكأن جموع المفكرين والمثقفين الذين توصلوا إليها بالدراسة والاختبار وليس بالعبث من القول هم أعداء لنا يقفون في صف أعدائنا الرسميين المعلَنين والمختبئين. ولو تأملنا بشيء من الجهد الذي لا نقوم به إلا مرغمين لرأينا رسل الله وأنبياءه من (الرعاة) و(الفقراء) ولم يختر الله رسلا حسب انتمائهم العرقي أو تبعا لعراقة قبائلهم. فالقبيلة ليست سوى عائلتنا الكبرى التي يحتّم علينا التاريخ تجاهلها وتعميق رؤية المساواة والعدل والحق. والاندماج في الحالة الإنسانية.
ولا أظن أن الزمن يعود إلى الوراء. وإلا رأينا الصراعات القبلية أشدّ هولا من الصراعات (المفتعلة) لأسباب سياسية مزعومة وتبعا لأمزجة من يقودون الحراك الاجتماعي ويعتبرونه القادر وحده على فرز الخبيث من الطيب.
وعلينا قبل البحث عن حلول لهذا المأزق التاريخي تنمية وعينا بالحياة التي هي لا أكثر من دارٍ مؤقتة يميز فيها الجيد من الرديء ليعيش الناس بعدها الحياة الأبقى في كنف الله، والمصيبة الأنكى أن هنالك ممن يعدّون قادة للرأي لا يزالون ينظرون للدنيا نظرة العاشق المشغوف ولا يلجأون إلى الله سوى في ساعات الشدة. وبئس هؤلاء من قوم لا يعلمون!