كتب الزميل الدكتور محمد العوين، في هذه الجريدة، حلقتين صادقتين، حلَّل بهما وضع الثقافة، وتاريخها منذ أن كانت ملحقة بالرئاسة العامة لرعاية الشباب، أو بمعنى أصح، ملحقة بالرياضة، وحتى تم إلحاقها بالإعلام، ضمن وزارة الثقافة والإعلام، خلال حقبة إياد مدني الوزارية.
ومن الملحوظة الأولى تظهر طريقة التعامل مع الثقافة، بوصفها ملحقاً، شيئاً ثانوياً، أمراً هامشياً، بجوار الرياضة أو الإعلام أو غيرهما مما قد تلحق به مستقبلاً، بمعنى أن لا تحظى بكوادر إدارية ذات علاقة بالثقافة، ولا يخصص لها موازنة مالية كافية، قياساً بالقطاع الذي تلحق به، مما يعني أن تصبح مخرجات الثقافة ضعيفة، ولا تشكّل شيئاً مؤثّراً يوازي حجم هذه البلاد وأهميتها.
لذلك، لا أعتقد أن يتطور الفعل الثقافي ومخرجاته في بلادنا طالما أنها تابعة، وليست مستقلة بميزانيتها، ولا بهيكلها الإداري، وستبقى هامشية وغير مؤثّرة، رغم أهميتها، ورغم أن بناء الإنسان وتكوين ثقافته في كثير من الدول، يشكّل هماً أساسياً، يضاهي إن لم يفق بناء المدن في تخطيطها وبناها التحتية.
تنتابني أحياناً تساؤلات حول ما إذا كان دور الثقافة واضحاً ومفهوماً في حياة الإنسان، وفي تكوين وعيه، وفهمه للحياة والأشياء من حوله، وتوازنه واعتداله وتسامحه، وقدرته على الحوار، واستلهامه للفنون والآداب المختلفة، وكل ذلك ينعكس على هذا الإنسان في عمله، وإخلاصه تجاه وطنه، وشعوره بالمسؤولية، و... إلخ.
أليس هذا ما يريده، ويتمناه، أي مسئول في مختلف دول العالم وشعوبها؟ أليست الثقافة عاملاً مؤثّراً في تطور الإنسان وتقدّمه؟ أليست الثقافة تحتوي في عمقها التعلّم والمعرفة والتربية؟ لماذا إذن لا تُمنح ما تستحق من طاقات بشرية نشطة وواعية ومسئولة، ويخصص لها ميزانيات كافية تليق بها، وبمخرجاتها؟
لدينا مفكرون ومثقفون وأدباء وتشكيليون وممثلون وموسيقيون وسينمائيون، لدينا أسماء رائدة لها تاريخ ومكانة عربية، وطاقات شابة مبدعة، يتمناها أي بلد مجاور أو عربي، لكنها للأسف تعمل بشكل فردي، وتنحت في الصخر لتصنع نفسها وإبداعها، تكافح على أكثر من جبهة، في صقل تجاربها من جهة، وتقديم ما تنتجه من فكر وإبداع إلى الآخر، دون أن تقدّم لها الأجهزة الثقافية الدعم والمكانة التي يستحقها، لأنها لا تمتلك الأدوات، ولا الإمكانات اللازمة، لتقديم هذا الدعم!
حينما ندرك أننا تجاهلنا الثقافة، وجعلناها يتيمة تائهة، كل زمن يتبناها قطاع حكومي ما، ثم يلفظها إلى قطاع آخر، حينما نتنبه لذلك، سيكون الزمن قد فات، وتجاوزنا الآخرون بخطوات كبيرة وواسعة، وسنكتشف أن التثقيف لا يقل أهمية عن التعليم، وعن التربية، إن لم يفقها بكثير، بل سنكتشف أن كل معاناتنا لعقود من السنوات، بمخرجات تعليم متواضعة، وإنسان ذي نظرة ضيقة، قادته إلى أحادية في الرؤية، بلغت حد التطرف أحياناً، جاء بسبب إهمال البعد الثقافي في التعليم وتهميشه، وتلقين التلاميذ بمقررات ثابتة، وعدم توفير الجوانب الثقافية، أو ما يُسمى بالأنشطة اللا صفية، وغياب الفنون والثقافات عن بيئات المدارس، خاصة في العقود الأخيرة.