سوف تكون حرب تحرير حقيقية بشرط أن تتخلص سريعا ً من المذهبية، بل أنها لن تكون حرب تحرير حقيقية ما لم تتخلص من المذهبية وتتبرأ منها.
حيال الأحداث الحالية في العراق من المتوقع أن تكون أكبر نسبة من المتفائلين بها والمؤيدين لها من نصيب عرب العراق السنة.
السنة الكرد والتركمان لا مبرر عندهم للتفاؤل، وهم يرون بيارق داعش السوداء ترفرف في أحيائهم وشوارعهم. النمط التعايشي والحضاري الذي تتبناه داعش للمستقبل وتقسم على فرضه بحد السيف لا يناسب الكرد والتركمان، ناهيك عن الشيعة العرب والنصارى والإيزيديين والصائبة والشوبك.
لنفس الأسباب لن يناسب الوضع الغالبية من العرب السنة في العراق لاحقاً، فيما لو سمحت الظروف العالمية والإقليمية وتناسب القوى بحسمها لصالحهم، لأن داعش أحد المكونات الظاهرة لحرب التحرير هذه، حتى لو لم تكن الأهم.
تفاؤل العرب السنة في العراق بحرب التحرير المحتدمة حالياً في العراق له ما يكفي من الأسباب وزيادة، لأنهم عانوا من الاضطهاد والقتل والتدمير وانتهاك الحرمات منذ الغزو الأمريكي البريطاني الفارسي في عام 2003 م ما لا يحتمل. عرب العراق السنة أدركوا منذ السنة الأولى للغزو أنه قام على الكذب والافتراء والتشويه الإعلامي، بتحالف أمريكي بريطاني إيراني يتقصد إجهاض التاريخ العربي في العراق وقطع الطريق على أي محاولة نهضة علمية فيه.
أدرك العرب السنة في العراق، أيضا ً منذ ذلك الوقت المبكر أن الحكومات العربية السنية في الدول المجاورة قد تخلت عنهم، إن لم يكن بعضها قد شارك في المؤامرة من خلف الستائر والحجب.
منذ ذلك الوقت المبكر، وهو الوقت الذي لم يكن فيه للحركات الإرهابية (الجهادية تجاوزا ً) أي موطئ قدم في العراق، بدأت القاعدة تحاول حشو الجرح الانتهاكي الهائل لكل ما هو عربي سني في العراق. استطاع الأمريكيون والبريطانيون وحكومة الانتداب الفارسية في بغداد رشوة البعض من شيوخ العشائر العربية السنية لقمع الثورة في الأنبار والفلوجة. الخيانة المسماة صحوة العشائر أنجزت فتح كل الأبواب لإكمال ما قد تبقى ولم ينتهك بعد من حقوق وحرمات العرب العراقيين السنة.
طفح الكيل ولم يبق للعرب السنة في العراق سوى تلمس الحصول على المدد والمقاومة من أي مصدر كان، حتى ولو من الشيطان بشكل مؤقت.
أصبح الاستنتاج ممكناً ومنطقياً من خلال أحداث الأيام القليلة الماضية، أن حركة تحرير العراق تتكون من تآلفات قوى عديدة، من بينها تنظيم داعش، ولكنه ليس العنصر الرئيسي فيها. أعتقد أن المتبقين الناجين من القتل والسجن والتعذيب من الذين سرحهم «طردهم» باول بريمر من الجيش والداخلية والحرس الجمهوري العراقي القديم، هم النواة الصلبة الجديدة، بالإضافة إلى الرافضين لخيانة الصحوات من رجال العشائر العربية، وبضع عشرات أو مئات من جيش الدولة الإسلامية في العراق والشام داعش.
بالمنطق المجرد، داخل الحسابات الإقليمية والدولية المعروفة، لا يمكن لأي ثورة تحرير عراقية أن تبدأ تحركها تحت الألوية البعثية والقومية القديمة، فهذه قد بليت وتقطعت وفقدت مصداقياتها، علاوة على أنها لا تمتلك الهيبة والاحترام ولا بقية من التعاطف الشعبي. كان لابد من الحصول على الهيبة وبث الرعب، وعلى بعض التعاطف الجماهيري المبطن، وذلك ما تمتلكه حالياً داعش، ولذلك أصبحت ألويتها هي المرئية وشعاراتها هي المدوية في لحظات الثورة الأولى.
لكن الإشكال والتفاصل سوف يقع لاحقاً، بل وبأسرع من المتوقع، حين تلاحظ قوى التحرير المتحالفة تسلط داعش وشذوذها عن الالتزام بشروط الحياة والتعايش والثوابت الوطنية الجامعة ومسارعتها إلى التنكيل والإعدامات العلنية في الشوارع والميادين.
هذه الحقيقة سوف تكون السرطان الجديد المدمر لمستقبل العراق، فيما لو أمكن اقتلاع الانتداب الفارسي من بغداد واسترجاع العراق لأهله بكل مكوناته.
إن لم تعلن حركة التحرير العراقية الجديدة عن أجندات واضحة للتعايش الوطني العادل بين جميع المكونات العراقية، فإن الوضع سوف يتحول سريعا ً إلى حرب أهلية شاملة تأكل ما تبقى من العراق. هناك احتمال كبير أن دول الجوار لن تسلم هذه المرة، مثلما سلمت من انفجارات العراق السابقة.