تتوالى الأحداث في منطقة الهلال الخصيب العربي بصورة درامية يصعب التنبوء بنتائجها وتبعاتها ويصعب أيضا احتمالها، فالقتل والتشريد والظلم والقهر هي عناوين الأخبار اليومية وبقدر ما يؤسفنا هذا الواقع لأشقائنا في العراق والشام، بقدرما يقلقنا تأثير هذ على واقعنا بأي شكل أو صورة، والمتتبع لتلك الأحداث يدرك أن الصراع المذهبي الذي يستثير حماس كل فريق ناشط في الصراع ماهو إلا غطاء لتبرير الاستبداد وتحقيق الأطماع الشخصية والفئوية في الاستئثار بالثروة الوطنية لفريق دون الآخر. فالاختلاف المذهبي قائم بماضيه وحاضره ومستقبله ولم يستطع أي فريق طمس حقيقة أن الفريق الآخر موجود ومؤثر, لذا وعلى مدى الزمن لزم كل من الفريقين جانب السلامة من الآخر في اعتماد صيغة تعايش مقبولة في حدها الأدنى يأمن كل فريق على نفسه وفي حدها الأعلى يتواصل ويتقارب الفريقان ويحدث صهار وانصهار بينهم في مكون وطني واحد.
الاختلاف المذهبي منذ بداياته كان وسيلة يوظفها الطامعون في السلطة والثروة، فهم يعتمدون على إثارة عواطف العامة وتحريك مشاعرهم لعداء الفريق الآخر فيصبح من السهولة اصطفافهم خلف قيادة تقوم أيضا بتوظيف المؤدلجين الذين يعززون مشاعر العداء بقصصهم وتأويلاتهم فيستشعر السذج الخطر من الفريق الآخر ويزداد ولاءهم لقيادتهم والتي لا تفعل سوى خلق مزيد من الخوف ومزيد من الشك.
عندما تحطمت الدولة العثمانية وتحررت بلدان الشام والعراق من الحكم التركي، كان طموح الناس أن تتولى إدارتهم وحكمهم حكومات وطنية تنشط التنمية والتجارة والصناعة، ولكن بفعل تأثير الاستعمار أصبح ذوي الحكم أسوأ مما كان الناس يشكونه إبان الحكم العثماني، وتوالت الثورات والانقلابات وكل منها تأتي لتعلن للناس أن عهدا من العدل والمساوة قد انبلج، ثم لا تلبث حتى تنتهي تلك الشعارات ويصبح القمع والقهر هو أداة الحكم، ويشرع الحاكم في الارتكاء على أقلية تستخدم الاختلاف المذهبي كوسيلة للبقاء في الحكم والاستئثار بالسلطة والثروة، وهذه الأقلية بما تخلق وتسعر من عداء بين مكونات المجتمع من الطوائف والمذاهب تخلق خوفا عاما لدى الجميع من زوالها، فهي ضابط التوازن بين مكونات المجتمع وهي صمام الأمان من احترابه، هكذا كان حكم البعثيين في العراق وهكذا كان حكمهم أيضا في سوريا. وبعد زوالهم في العراق لم يبق في العراق عاقل مدرك لخطورة الاحتراب المذهبي فنشط أرباب الاستبداد من جديد في محاولة تكوين مجتمع مقهور بخوفه من بعضه، وحين ثار أهل الشام على النظام البعثي بادر في إطلاق شبيحته لتذكير الناس بأنه هو فقط من يستطيع حمايتهم من الفوضى وبعد أن فشل في كبح جموح الثورة الشعبية أصبح العدو الأول للشعب.
المتدبر لما يحدث في العراق والشام يدرك أن المعضلة ليست في المذهبية، فالمذهبية قائمة بين جميع الطوائف وهي في جميع الأديان واختلافها بعض من إرادة الله، وكثير من البلدان على اتساعها وكثرة أديانها وطوائفها تنعم بأمن ونمو حضاري ومدني واقتصادي، المعضلة الحقيقة هي في النزعة للاستبداد وغلبة الناس والتسلط عليهم وتكاد هذه النزعة أن تكون غريزة متأصلة في جينات الفكر السياسي العربي، فالساسة العرب يستمدون حقهم في الاستبداد من التاريخ والتراث الذي كتبه المؤدلجون، ولا سبيل للخلاص من ذلك إلا بتغيير القيم الاجتماعية التي تبرر الاستبداد وتشجعه، فالاستبداد هو مكمن الخلل.