في اقتصاد العالم الكلي اليوم تمثل المؤسسات الصغيرة ما لا يقل عن (80 %) من مجموع المنظمات الاقتصادية، وتوظف ما لا يقل عن (70 %) من مجمل العمالة العالمية، وتنتج ما لا يقل عن (60 %) من مجمل الناتج الأممي، وتحظى بدعم وتشجيع ورعاية في معظم الاقتصادات المتقدمة والنامية على حد سوى، بل إن بعض البلدان مثل (إيطاليا) و(تايوان) تعتمد اعتماداً شبه كلي على الكيانات الاقتصادية الصغيرة، وأصبحت معظم الشركات العالمية الكبيرة تعتمد في تحقيق معدلات خفض التكاليف على التعاقد مع المؤسسات الصغيرة، حتى أن شركة (تويوتا) عندما ابتدعت أسلوب (Just in time) في توريد مكونات سياراتها كان لديها (20000) مورد من المؤسسات الصغيرة.
ومع ذلك، وفي بلادنا، تواجه المؤسسات الصغيرة تحديات يصل بعضها إلى حد الاستقصاد في وضع عقبات النمو، وأحياناً إجهاض تلك المؤسسات، وخصوصاً من قِبل مؤسسات التمويل المالية ووزارة العمل على وجه التحديد، وإهمال من وزارة التجارة والصناعة التي يُفترض أن تكون الحاضن لهذه المؤسسات. أما الغرف التجارية فهي أدوات الكبار لتحجيم هذه المؤسسات الناشئة، وكل جهودها التي تدعيها ما هي إلا من قبيل رفع الحرج، ونثر الرماد في العيون.
عندما يتحدث بعض المسؤولين الكبار في بلادنا عن المؤسسات الصغيرة يكون الحديث حول سوء إدارة هذه المؤسسات، وأنها أصل الفوضى في سوق العمل، والفوضى في الأسعار، والتخلف عن التسديد، وفشل المشروعات؛ وبالتالي لا بد من تحجيمها أو الحد من أعمالها ومحاصرتها بالمتطلبات والاشتراطات.. هؤلاء المسؤولون ليسوا غافلين عن حقيقة أن شركة الراجحي المصرفية كانت دكان صرافة متواضعاً في بدايتها، وأن شركة العليان المالية بدأت بسيارة قلاب يقودها المرحوم سليمان العليان مقاولاً، وأن المرحوم إسماعيل أبو داوود كان صاحب دكان متواضع في جدة. ولكن ربما علينا أيضاً تذكير هؤلاء المسؤولين بأن لاري اليسون أسس شركة (Oracle) بمبلغ (2000) دولار عام 1977م، وأن بل جيت كان ينام على الرصيف بانتظار أن تفتح شركة (IBM) مكاتبها ليفوز بعقد تطوير برنامج Dos) 1980م)، وأن شركة سامسونج التي أسسها بيونج تشول لي عام 1938م كانت مكتباً صغيراً لتصدير السمك المجفف الكوري للصين، وأن شركة تويوتا كانت في الأصل مخرطة أسسها ساكيتش تويودا عام 1927م لصناعة اختراعه ماكينة النسيج الأوتوماتيكية، وأن مؤسس شركة (Virgin) رتشارد برنسون كان يبيع أسطوانات الأغاني من خلال البريد عام 1970م حتى تمكن أخيراً من افتتاح دكان أصبح أخيراً أكبر شبكة لمبيعات المصنفات الموسيقية في العالم. ولن نذكّر هؤلاء المسؤولين بأن مؤسسي (Yahoo) و(twitter) و(Facebook) و(google) كانوا طلاباً عندما بدؤوا مؤسساتهم تلك، وبتمويل شخصي، أو قروض من الأقرباء. واليوم نحن أمام أكبر طرح عام في العالم (AliBaba) أسسها عام 1999م الصيني (Ma yun) المتخرج مترجماً للغة الإنجليزية بعد أن حقق نجاحاً في موقعه (الصفحات الصفر الصينية).
معظم الشركات العملاقة كانت مؤسسات صغيرة في مهدها، أو أن مؤسسيها كانوا في يوم ما صغاراً في القدرات، ولكن كباراً في الآمال والأحلام، فلماذا يُحرم المواطن السعودي الطامح في أحلامه وآماله، والضعيف في قدراته وإمكاناته، من خلال إجراءات واشتراطات بيروقراطية، وضعها من لا يرى حقيقة العالم الطامح؟ المواطن السعودي اليوم مجبر على دفن طموحاته في الخوف من الفشل نتيجة ضعف إدراك أو اهتمام مسؤولين كبار في الدولة، لا يرون سوى الكبار الذين يفتحون لهم مكاتبهم، ويستقبلونهم، ويخصونهم بالاستثناءات والتسهيلات.
إذا كان هناك رغبة في بناء اقتصاد متين في بلادنا فليكن على أكتاف المؤسسات الصغيرة، فتلك حقيقة اقتصادات العالم، وليس هناك مانع من وضع ما يضمن جدية المغامر، ولكن بمتطلبات منطقية يمكن تحقيقها، مثل وضع متطلب خطة عمل ودراسة جدوى، ووضع نظام محاسبي، وغير ذلك من متطلبات الضمان، ولكن ليس من المنطق أن تقرر وزارة العمل عدم منح المؤسسات الصغيرة تأشيرات استقدام، وتجعلهم ضحية لشركات الاستقدام الكبيرة التي أذنت بتأسيسها للكبار فقط، وليس من المنطق أن توصد البنوك تمويل الأعمال الصغيرة، وتمول شركات (الدين والتقسيط)، التي بدورها تمول هذه الأعمال بشروط وعمولات مجحفة. المؤسسات الصغيرة اليوم أمام حاجة ليكون لها راعٍ متخصص، وليكن وزارة متخصصة أو هيئة متخصصة، تضمن عدالة معاملتها وحمايتها من الحيتان الكبيرة؛ فالواقع الحالي لها غير نافع للاقتصاد الوطني على المديَيْن القصير والطويل.