استطاع ابن زيدون الهروب من سجنه في قرطبة التي كان يحكمها أبو الحزم ابن جهور، واختفى في مكان لا يصل إليه طالبوه، بعيداً عن وطنه قرطبة، وهو في رسالته لاستاذه يبرر هروبه، ومغادرته قرطبة، وهجرانه لوطنه، وهذا مبرر غير مقبول، فتراب الوطن غالٍ مهما كانت النوائب والخطوب، والاستئناس بنسيمه أثمن من كل مأمول ومطلوب، لكن الناس أخياف، سراه وخساس، كما يقوله هو في إحدى قصائده، وإلا فكيف يغادر الوطن الذي أبصر الضوء من بابه، وخطا أولى خطواته على ترابه، وتجاوز على ساحته أترابه.
جبلة الإنسان أن يقرر ما يشتهي ثم يبحث عن مبرر لتصرفه، ولو كان منصف لغيره من نفسه، لم يقرر مسبقاً وإنما يضع أمامه ثم يحكم على ضوئها حتى وإن قادته إلى خلاف ما تشتهي نفسه، ويرتجيه قلبه، وابن زيدون ليس سوى واحد من أولئك الباحثين عن المبررات في هروبه من سجنه ومغادرته قرطبة، والواقع أن هروبه ذلك كان له عاقبة طيبة على ما بقي من عمره، فقد أصبح ذا الوزارتين لدى المعتضد بن عباد حاكم أشبيلية ووالد المعتمد بن عباد ذائع الصيت، كما أنه استطاع بدهائه أن يقنع المعتمد فيما بعد أن يستولي على قرطبة التي كانت في أيدي خصومه، بدأ الزمن دورته ، وعاد إلى قرطبة مسقط رأسه بعد أن أزاحهم عن الحكم، فسبحان مغير الأحول، ومقدر الآجال، ومبلغ الآمال، والعالم بأسرار القلوب، ومفرج الكروب، وهذه قطعة من تلك الرسالة «فلم استطع صبراً، وعلمت أني قد أبليت عُذراً، ولم يبق إلا أن يعذر لي لبيد، وكاد، ورأيت أن العاجز من لا يستبد، فالمرء يعجز لا محالة، ولم أستجِز أن أكون ثالث الأذلين: العير والوتد. وذكرت أن الفرار من الظلم والهرب مما لا يُطاق من سُنن المرسلين. قال الله عزّ وجلّ على لسان موسى عليه السلام: {فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ).
لا عار لا عار في الفرار فقد
فر نبي الهدى إلى الغار
ونظرت في مفارقة الوطن، والبين عن الأحبة، فتبين لي أن ايحاش نفسي، بإيناس أهلي، وقطعها في صلة وطني، غبن في الرأي، وخور في العزم، ووجدت الحُر ينام على الثكل، ولا ينام على الذل، وأذنت إلى قولهم: ليس بينك وبين البلاد نسب فخيرها ما حملك. وإذا نبا بك منزل فتحول
وقال بعض المحدثين:
أرى الناس أُحدوثة
فكوني حديثاً حسن
كان لم يزل ما أتى
وما قد قضى لم يكن
إذا وطن رابني
فكل مكان وطن
ولم استغرب أن أسام مثل هذا الخسف في مسقط رأسي، ومعمق تمائمي، وأول أرض مس ترابها جلدي، فقديماً ضاع المرء الفاضل في وطنه، وكسد العلق الغبيط في معدته. قال بعضهم:
أضيع في معشري وكم بلد
يعود عُود الكباء من حطبه
فاستخرت الله عزّ وجلّ، واضح وجه العُذر، ثابت قدم الحجة، عند من غض عين الهوى، وخزن لسان التعسف. والله يصيب غرض الصواب برأيي، ويُقرب غاية النجاح على سعيي، حسبما في علمه أني مظلوم مبغي عليه، منسوب ما لم آته إلي، فهو المُؤمل بذلك والمرجو له.
ولعمرك يا سيدي أن ساحة العُذر لتضيق عنك، وما تكاد تتسع لك في إسلامك لتلميذك وابن جارك وشيخك الذي لم تزل متوفراً عليه آخذاً عنه، مُقتبساً منه مع إكثارك من ذكر هذا والاعتداد به، وادعاء الحفظ له، وقد رويت حسن العهد من الإيمان، وسمعت المثل: «أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً»، فالمرء كثير بأخيه، ولا أقل من استعمال الجد، واستغراق الجهد:
فمبلغ نفسي عُذرها مثل مُنجح
ولا لوم في أمري إذا بلغ العُذرا
هكذا إذاً طرح ابن زيدون قضيته على أستاذه، ورام أن يقبل عذره، وأن يكون عوناً له لا عوناً عليه، أما مفهومه للمثل القائل: «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً» فالمقصود بموضوع الظالم أن تردعه عن ظلمه لا أن تعينه عليه.