) يكتسب بعض الأمكنة في أكثر من قطر عربي؛ قيمة دينية أو تاريخية أو أدبية، ويحتل مكانة مرموقة في وجدانيات الناس، قد تصل في بعض الأحيان إلى التقديس، بسبب الاسم المكتسب الذي يحمله من مئات السنين، ومن ذلك منطقة ومسجد الحسين رضي الله عنه في القاهرة بمصر،
وما يشاع بين العامة من أنه مدفون فيها، وأنه مدفون في عسقلان بفلسطين، مع أن الحسين بن علي رضي الله عنهما قتل ودفن بكربلاء بالعراق.
* ومثل ذلك السيدة زينب بنت علي رضي الله عنهما، فقد اختلف المؤرخون في مكان دفنها، هل هي دفنت بالقاهرة أم بدمشق؟ وفي دمشق منطقة ومسجد باسمها، وفي القاهرة كذلك، في حين أن بعض المؤرخين يقول بأن قبر زينب الذي بالقاهرة هو لزينب بنت يحيى المتوج ابن الحسن.
* يبدو أن أسماء شهيرة كهذه؛ كانت وما زالت تخضع لتجاذبات مذهبية، ومنها الصوفية على وجه خاص، ثم تحولت مع الزمن إلى مناطق جذب للتجارة والتكسب، فالذين يزورون منطقة الحسين والسيدة زينب في القاهرة أو دمشق، لم يكلفوا أنفسهم التوثق تاريخياً من نسبة المكان إلى المكين، فلا قبر للحسين أو زينب في هذا المكان أو ذاك، ولا صلة لهما بما يروج له أرباب التكسب خلف اسميهما.
* مثل هذه المغالطات التاريخية التي ابتلعها العامة منذ أربعة عشر قرناً مضت، ما يتعلق بـ (رابعة العدوية)، التي لها ميدان ومسجد بالقاهرة، ما يشي بصلة ما لها بهذا المكان، وهي رابعة بنت إسماعيل العدوي، ولدت في مدينة البصرة عام 100هـ 717م تقريباً، من أب عابد فقير، وهي ابنته الرابعة، وهذا يفسر سبب تسميتها رابعة، فهي البنت (الرابعة)، وماتت ودفنت بجبل الطور بالقدس سنة 180هـ، كما يذكر المؤرخون.
* عاشت رابعة حياة فقر وعوز وحرمان، فقد توفي والدها وهي طفلة دون العاشرة، ولم تلبث الأم أن لحقت به، لتجد رابعة وأخواتها أنفسهن بلا عائل يُعينهن على الفقر والجوع والهزال، فذاقت رابعة مرارة اليتم الكامل، دون أن يترك والداها من أسباب العيش لهن؛ سوى قارب ينقل الناس بدراهم معدودة في أحد أنهار البصرة.
* كانت رابعة تخرج لتعمل مكان أبيها، ثم تعود بعد عناء تهون عن نفسها بالغناء، وبذلك أطلق الشقاء عليها، وحرمت من الحنان والعطف الأبوي، وبعد وفاة والديها؛ غادرت رابعة مع أخواتها البيت، بعد أن دب في البصرة جفاف وقحط أو وباء؛ وصل إلى حد المجاعة، ثم فرق الزمن بينها وبين أخواتها، وبذلك أصبحت رابعة وحيدة مشردة، وأدت المجاعة إلى انتشار اللصوص وقُطَّاع الطرق، فخطفت رابعة من قبل أحد اللصوص، وباعها بستة دراهم لأحد التجار القساة من آل عتيق البصرية، وأذاقها التاجر سوء العذاب، ولم تتفق آراء الباحثين على تحديد هوية رابعة، فالبعض يرى أن آل عتيق هم بني عدوة، ولذا تسمى العدوية.
* هجرت رابعة الغناء، وتحولت للزهد والإنشاد الديني، وبرعت في الشعر الصوفي كما يقال عنها، ولها فيه حكم كثيرة تروى، ومن ذلك قولها:
حبيب غاب عن بصري وسمعي
ولكن في فؤادي ما يغيب
يا حبيب القلب ما لي سواك
فارحم اليوم مذنبا قد أتاك
يا رجائي وراحتي وسروري
قد أبى القلب أن يحب سواك
* وجاء كم كثير من نثر حكمي وشعر عشقي صوفي ينسب لرابعة العدوية، فأصبحت في منزلة قلّ نظيرها عند كثير من الناس هناك، حتى رغم تشكيك عدد من المحدثين والمؤرخين فيما ورد وينسب إليها، ومع أنها لم تولد ولم تدفن في مصر، إلا أن ذكرها في مصر أشهر وأظهر، ولما جاءت فتنة الإخوان قبل عدة أشهر، امتهن اسمها أي امتهان، وتحول ميدانها إلى ثكنة عسكرية ضد الدولة المصرية وشعبها، بل جعل رجب طيب أردوغان من اسمها علامة وشعاراً يدغدغ به عواطف المصريين والعرب، ويذكرهم بالخلافة العثمانية، التي سقطت بسقوط أجداده على فراش الرجل المريض..!
* ركبت جماعة الإخوان- ومن لف لفها من المناصرين داخل مصر وخارج مصر- ركبوا موجة الشعار الدال على شخصية دينية تمتد بجذورها في تاريخ الأمة، ومن مكان يحمل اسم شخصية لها بعدها في الوجدان الديني عند العامة في مصر وفي خارج مصر، ولكن هذا الاسم الذي كان جميلاً عند الشعب المصري، تحول إلى رمز للعدوان والقتل والإرهاب، وسالت في ساحته دماء زكية، وأزهقت بسببه أرواح بريئة، وأصبحت رابعة العدوية الصوفية الزاهدة عند غير الإخــوان؛ أقــرب إلى (رابعة العداوية)، أو (العدوانية)، كما يقول بهذا بعض المصريين اليوم، التي يُذكّر بها القتلة ضحاياهم كلما رفعوا في وجوههم الكف المربعة التي رفعها أردوغان في أنقرة.
* ما أبشع تشويه الأشياء الجميلة في وجدانيات الشعوب.