شكَّل تحرر الموصل ومناطق شاسعة من محافظة الانبار ونينوى في العراق من سلطة نوري المالكي مفاجأة واندهاشا لدى كثير من المتابعين، خاصة وان ماحدث ظهر بشكل فجائي ودون مقدمات وبعمليات سريعة وكاسحة، لكن حين تقدم الرئيس الأمريكي للكونغرس بطلب نصف مليار دولا لدعم الثوار المعتدلين في سوريا
وحين دعا السيد جون كيري المسلحين في سوريا لإخراج من سماهم بالمتشددين أو (الإرهابيين) للعراق يبدو أن الصورة أصبحت واضحة.
فلقد شكل وجود الحركات الإسلامية التي توصف بالمتشددة أو التابعة للقاعدة في سوريا لإسقاط نظام الأسد مأزقاً حقيقياً للولايات المتحدة الأمريكية باعتبار انه قد يكون البديل لنظام ثار عليه شعبه، خاصة وان قوة الجيش الحر لم تعد هي الفاعل الرئيسي أو المؤثر الأول في الأحداث، وقد تكررت الدعوات والمناشدات من الغرب وحتى دول المنطقة للثورة السورية أن تبتعد عن تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، بل وحصلت مواجهات بين الجيش الحر وقوات الدولة الإسلامية وظهر جليا تفوق الأخيرة وتسيدها للموقف في سوريا، وفي غمرة التشاؤم والعتب من الموقف الأمريكي الذي كان يبدو للبعض مترددا أو غير متحمس للحسم في سوريا ظهرت قوة عسكرية في شمال العراق اجتاحت الموصل وتقدمت بشكل سريع إلى تخوم بغداد محررة كامل الشريط الحدودي بين سوريا والعراق من سلطة المالكي ومهددة العاصمة بغداد، قيل إنها ثورة عراقية مسلحة ثم قيل إنهم العشائر وبقايا الجيش العراقي الوطني، ثم ظهر اسم (داعش) ولا أهمية بالطبع لما يطلقه نوري المالكي من أوصاف ونعوت ظهر انه كريم في إصباغها على كل من لا يخضع لتعليمات طهران وسياساتها.
الولايات المتحدة الأمريكية فجأة ظهرت بموقف لم يعتده المالكي منها حين أعلنت أنها لن تدخل عسكريا لحماية عميل طهران في المنطقة الخضراء وهي التي نصبته وحمته من قبل، وبدا وكأن الولايات المتحدة الأمريكية تتلاقى وإيران أو على تناغم أو تفاهم معها بحيث تقوم إيران بالدفاع عن عميلها بدلا من أمريكا، وكان هذا بمثابة خلط للرؤى جعل الكثير من المتابعين والمحللين السياسيين غير قادرين على استيعاب ما يجري، هناك من قال إن أمريكا أصبحت بعد خطتها الاقتصادية التي ورطها فيها الرئيس الأمريكي السابق بوش الصغير غير قادرة على خوض حروب جديدة، وهناك من قال إن المغزى الحقيقي من وراء كل ما يجري هو إدخال القوتين السنية والشيعية بالمنطقة في مواجهة عسكرية، وهناك من رأى أن إيران قد أصبحت بظهور (داعش) كأنها دولة تحارب الإرهاب ويستشهدون بالموقف الروسي وكأن الدول العربية الداعمة للشعب السوري وتحقيق الأمن والاستقرار في العراق هم من يشجع ويغذي الإرهاب المزعوم، وفي الاتجاه الآخر هناك من زعم أن الدولة الإسلامية في العراق والشام تابعة لطهران وتحظى بدعمها في الخفاء، والحقيقة أن هذه التحليلات استندت إلى ما يتم التصريح به لوسائل الإعلام من هذا الجانب وذاك دون التعمق في رؤية ما وراء الأحداث ولمس المؤشرات الحقيقية التي قد تفكك طلاسم هذا التحول السريع للأحداث من سوريا للعراق، فقد كانت أولى المؤشرات اختفاء أو تراخي ظهور (الدولة الإسلامية - جناح العراق) في سوريا وان كان بشكل جزئي وبسيط وتحت صورة الخلاف بين فرعي الإمارتين في العراق والشام ثم رأينا كيف أن النظام السوري بدا وكأنه قد تجاوز مرحلة خطر السقوط، وأصبح يملك المبادرة مدعوما بقوات من حزب نصر الله وإيران، حتى أن اليأس من سقوط بشار الاسد أصبح ظاهرا في الحديث عن مخارج سياسية للمحنة السورية، ورأينا كيف أن البعض بدا يعيد حساباته ويحاول إعادة ترميم علاقاته مع النظام السوري، بيد أن ظهور (داعش) فجأة في شمال العراق واكتساحها السريع لمناطق عانت كثيرا من ظلم وجور الطائفية والإقصاء والتنكيل من قبل حكومة المالكي ووصولها إلى تخوم بغداد مع اندحار مخز لعسكر الحماية الطائفي فيما يبدو قد أزال كثيرا من اللبس في الصورة.
إنها بمثابة توجيه (داعش) نحو العراق لإضعافها في سوريا مع تقديم الدعم الأمريكي للقوى الموصوفة بالمعتدلة هناك للإسراع بإسقاط نظام بشار في مناخ أكثر وثوقاً وطمأنينة للجانب الأمريكي لمرحلة ما بعد حكم البعث، وفي نفس الوقت هو أيضاً توجيه لـ (داعش) بإسقاط المالكي وتحجيم النفوذ الإيراني في العراق، ولست أعني أن (داعش) أداة بيد قوة أخرى، فهذا أمر قد يبدو شكليا لكن دون أن يكون حقيقيا باعتباره يخالف المنطق، ولكن توجيه مسار الأحداث بذكاء ووضوح ودقة ربما وضعها أداة دون إدراك، فبسط (داعش) في العراق بين سوريا الجديدة بعد سقوط بشار وبين الضد المذهبي في إيران سيسهل محاصرتها وربما القضاء عليها فيما بعد ليكون الهدف المكمل للصورة المرسومة أمريكيا، وإذا كان لابد من الإقرار بخطورة الوضع على الحدود السعودية والأردنية والكويتية والتركية باعتبارهم جيران العراق المراقبين لما يحدث دون تدخل فان إعلان هذه الدول يقظتها واستعدادها للدفاع عن حدودها يكمل إيضاح الصورة.